صفحات سوريةميشيل كيلو

حدود الصراع على سوريا


ميشيل كيلو

لا أعرف إن كان الروس سيصرون إلى النهاية على موقفهم الراهن، وأشك كثيرا في أنهم قادرون على مجاراة أميركا في لعبة القوة النهائية، التي أعتقد أنها ستبدأ خلال أشهر قليلة، حيث سيبدو الواقع الدولي بعدها على حقيقته، بعد خروجه من الضباب الانتخابي في أميركا، وتمكن الرئيس المنتخب من فصل سياسته السورية عن موقعه داخل الإدارة، والتصرف في ضوء مصالح ما فوق شخصية تتخطى موقعه داخل النسق السياسي الاميركي إلى ما عليه فعله كي تضع اميركا يدها، او معظم يدها، على سوريا، من ضمن الصراع العالمي على منطقة الشرق العربي، الذي بدأ مع نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحادي والعشرين الحالي، ويعتبر في نظري علامة فارقة رئيسة للسياسات الدولية في الحقبة الراهنة من تاريخ عالمنا.

هجمت روسيا في مجلس الأمن، لتقيم سورا حول سوريا :مركز نفوذها المميز الأخير في المشرق العربي ومجمل المجال الآسيوي الذي وراءه، إذا ما استبعدنا إيران، موقعها الآسيوي الآخر، المختلف عن الموقع السوري بما يمتلكه من قوة نسبية تتيح له استقلالا فاعلا عن السياسات الروسية، ومنافستها في بعض المناطق، بل وتشكيل بعض الخطر عليها في مناطق محددة. وفرضت روسيا بقوة «الفيتو» إبقاء القوى الأخرى، وخاصة منها أميركا، مقيدة الخيارات والحركة حيال الشأن السوري، بينما مارست واشنطن حدود دورها بتردد أملاه عليها وضع رئيسها الراغب في إعادة انتخابه، أكثر مما أملاه تفوق روسيا في الشرق الأوسط عامة وسوريا خاصة. في ظل هذا السلوك المتربص والمؤقت، واصل الأميركيون النظر إلى الأزمة وما تفرزه من سياسات داخلية وإقليمية ودولية بهدوء من يثق بأن ثمار الصراع ستسقط ذات يوم غير بعيد، في حضنه، من دون أن يتعب نفسه كثيرا في إعداد الظروف الضرورية لذلك، ما دام عنف النظام السوري المتصاعد هو الذي يتكفل بتقويض أية فرصة لحل المشكلة بواسطة تسوية داخلية، وبتدمير مجتمع لطالما لعب دورا خاصا في الصراع على المنطقة، يهم أميركا وإسرائيل كثيرا التخلص منه منذ بداية الحقبة الديموقراطية البادئة، كي لا يكرر تحديه لهما الذي أتعبهما كثيرا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية،عندما وجدت القيادة الناصرية المصرية فيه حاملها القومي طيلة نيف وربع قرن، فكان لا بد من تدميرهما معا، وهو ما حدث خلال ضربة حزيران العسكرية التي أدت إلى القضاء على القيادة الناصرية في مصر، بينما قوضت حركة حافظ الأسد التصحيحية مجتمع سوريا وفككته وطيفته ووضعت مكوناته الواحدة في مواجهة الأخرى. لذلك تستطيع أميركا اليوم التفرج بارتياح إلى استكمال تدميره على يد الجيش الأسدي، والاطمئنان إلى أن سوريا لن تفلت منها في نهاية المطاف، في حين ستخرج روسيا منها وهي تجر أذيال الهزيمة والخيبة، ليس فقط لأنها تتحالف مع نظام تقف اكثرية شعبه ضده، بل كذلك لأن النظام يتحول إلى عبء عليها في واحدة من أكثر لحظات تاريخها العربي حرجا وصعوبة، ويفقد قدرته على أن يكون تابعا مفيدا لها، بينما تشحن مواقفها صدور السوريات والسوريين بحقد متعاظم عليها قد يؤدي إلى إلحاق أذى شديد بها، إن لم يكن اليوم فغدا، وتحشد قطاعات واسعة من الرأي العالم العربي والإسلامي ضدها، وتثير غضبها ضد سياساتها ومصالحها.

تراقب أميركا وإسرائيل المشهد بفرح، ما دام شطب سوريا الدولة والمجتمع قد كان دوما بين أولوياتهما، ولأن النظام قام ويقوم بهذه المهمة نيابة عنهما، مع أنه لن يجني من ذلك غير المزيد من الضعف والتهالك، ويضع نفسه، بمجرد أن يتوقف إطلاق نيران مدافعه، في مكان سيخرجه من معادلات السياسة والقوة في المنطقة، التي كان قبل الأزمة عاجزا عن احراز أي تقدم لصالحه فيها، فكيف يكون الحال بعد أن زج جيشه في حرب داخلية استنزفت روحه الوطنية ومعنوياته وكثيرا من قدراته، ووضعته خارج دوره الوحيد المقبول: مواجهة إسرائيل وتحرير الأرض السورية المحتلة؟ سيكون من المحال أن يفكر النظام ولو مجرد تفكير بمواجهة أميركا وإسرائيل، عندما تحين ساعة تسديد الفواتير، كما سيكون من المستحيل رفض أي أمر تطلبانه منه.

ألا يفسر هذا لماذا تركت الروسيا دعم القضاء العملي على دولة ومجتمع لطالما كانا حليفين لها؟ لن تجد روسيا بعد اليوم أي تعاطف منهما، ويرجح أن لا يقفا إلى جانبها في أي مستقبل منظور، إن واصلت سياساتها الراهنة خلال أشهر الحسم القليلة القادمة. ولعل الروس لم يفهموا بعد معنى أن يستجير الشعب السوري بقوى الغرب، التي تفيد من قتله وتدميره، بينما تتحول روسيا إلى عدو له يراه بأعين الحقد والرغبة في الانتقام، ويضعه في سلة واحدة مع النظام الذي يقتله.

تراقب اميركا المشهد بارتياح، فالمأزق لدى الآخرين: النظام الذي ينتحر بيده وهو يقاتل ويقتل شعبه، والشعب الذي بدأ ينظم ويوسع عنفه ضد النظام، بينما تسير سوريا على طريق التآكل اليومي والتدمير العنيف، الذي لن يصل بها إلى الديموقراطية، إن وصل، إلا وهي منهكة، لا تقوى على بناء تجربة تتطلب الكثير من الوحدة والوعي والتضحية والقدرات، بينما يمكن للمعركة الحالية، الدائرة عند قاع المجتمع، أن تمنع قيامها لفترة طويلة جدا، بما ان حاملها المجتمعي الموحد سيكون غائبا او مهشما، بينما ستخرج مكوناته جميعها مدماة وممزقة ومفقرة بقوة العنف العبثي المتصاعد. أما روسيا ،التي تتحول إلى طرف في الصراع، فإنها لن تخرج رابحة منه، لأنها تبدو وكأنها ربطت مصيرها بطرفه الرسمي، المصمم على منع أي حل سياسي حقيقي للأزمة التي تعصف بوطنه، فهي لا تجد أمامها غير بدائل ثلاثة يصير بلوغها أصعب أكثر فأكثر بمرور الوقت، مهما كانت درجة انخراطها في الصراع وكان تصميمها على خوضه:

1- المشاركة في المعركة حتى انتصار النظام. هذا البديل سيكون مكلفا إلى درجة يصعب تصورها، ليس فقط لأنه سيضع موسكو في موقع من يقاتل أغلبية السوريين، بل كذلك جمهرة العرب والمسلمين، وسيجعل منها خصما، وربما عدوا، لبلدان الخليج ولغيرها من دول المنطقة. ثم ماذا سيعني انتصار النظام، إن كان سيخمد الثورة بتحويلها إلى عمليات قتال مستمرة وحرب عصابات، لن تلبث أن تفجر ثورات وثورات؟ إلى ذلك، سيرتطم هذا البديل بالمصالح والسياسات الأميركية، التي أعلنت رفضها السماح بحدوثه، كما أخبرتنا هيلاري كلينتون وزيرة خارجية واشنطن، التي قالت خلال مؤتمر أصدقاء الشعب السوري في اسطنبول: «إن بشار الأسد واهم إن اعتقد أنه سيهزم المعارضة»، ورسمت بقولها خطا أحمر لا شك في أن روسيا ستكون معنية به، خاصة بعد استعمالها الفيتو في مجلس الأمن وما ترتب عليه من نتائج ميدانية بدا معها أن موسكو تحمي النظام، وأن شعب سوريا صار من حصة خصمها الأميركي ،الذي سيمنع النظام وروسيا من هزيمته، كما اعلنت كلينتون.

2- الاتفاق مع الأميركيين على حل يحفظ مصالحهم من دون ان يحفظ بالضرورة النظام، في حال توفرت للروس ضمانات أميركية وسورية معارضة، تقنعهم أنه يمكنهم الحصول على ما كان يعطيهم إياه النظام. بما أنه لا يمكن للتوافق مع الأميركيين أن يبقيهم خارج المعادلة السورية، فإن موسكو لا بد أن تكون لها مصلحة حقيقية في التفاهم مع المعارضة، لأن ذلك يحسن أوراقها تجاه أميركا، في لعبة الشد والجذب الحالية معها.

3- التفاهم مع المعارضة، إما مجتمعة، أي مع المجلس الوطني وغيره من تنظيمات ما يسمى معارضة الداخل والخارج، أو منفردة، باعتبار أن المجلس قد يكون من حصة تركيا، وأن معارضة الداخل، التي لا يقر بوجودها، تستطيع فتح خط على موسكو، وآخر على قوى داخل النظام من غير آل الأسد، في مسعى ينضج حلا لا يبدل كثيرا خيارات سوريا وعلاقاتها مع موسكو، لكنه يحجم النفوذ الأميركي ويقوض حضور تركيا وملحقاتها الإسلامية السورية في الأزمة. هل بدأت روسيا تعمل على هذا الخيار انطلاقاً من دعوة هيئة التنسيق إلى موسكو؟ وماذا ستفعل أميركا إن نجح؟ هل تقوم تركيا عندئذ بالتورط المباشر في الأزمة السورية لمنع الحل الروسي، مع ما يمكن أن يسببه ذلك من أزمات تدفع إلى حل يأخذ بالبديل الثاني: التفاهم الأميركي الروسي، الذي سيعني عندئذ تزايد نفوذ أميركا على حساب النفوذ الروسي في سوريا؟ لكن موسكو ستقبله لأنه أهون الشرين بالنسبة إليها، ما دامت لا تستطيع خوض معركة طويلة في الشرق الأوسط مع أميركا والغرب ودول الخليج والجمهور العربي والإسلامي الواسع من دون أن تتقطع أنفاسها وتستنزف خلالها.

ماذا سيحدث إن رفضت المعــارضة الداخلية الخيار الروسي؟ هل ستربط موسكو وجـودها ونفوذها في سوريا بالنظام، علما بأن من المرجح جدا أن تدخل أميركا بقواها الخاصة وبصورة مباشرة على الخط، بعد ان يبلغ التدمـير حدا يؤدي إلى شطب سوريا من معادلات السياسة والقوة في المنطقة، وأن يقوم في سوريا نظام هش، غير ديموقراطي وعاجز عن حل مشكلاتها، سيجد نفسه مجبرا على الارتماء في الأحضان الأميركية / الخليجية، وعلى إرجاء وربما هجر المشروع الديموقراطي، الذي لا تريده واشنطن وتل أبيب على حدود فلسطين الشمالية.

لا خيار أمام روسيا أفضل وأعقل من التخلي عن النظام والبحث عن بديل له، من ملامحه: التفاهم مع أميركا الذي لن يكون سهلا لأن واشنطن ستجد في قبول الروس بتسوية عامل ضعف لا يجوز التساهل في استغلاله. والسعي إلى تفعيل البديل الثالث، خط موسكو / المعارضة الداخلية / أطراف في النظام. وهذا لن يكون ممكنا بدوره من دون قيام المعارضة بتقديم ضمانات للروس يعينهم الحصول عليها، وبدء مرحلة الانتقال الصعبة جدا الى الديموقراطية، على التفاهم مع الأميركيين حول حل وسط يقر الأخيرون فيه بما حصلت موسكو عليه في سوريا، وهم يدخلون إليها .

ماذا ستفعل موسكو، بينما الوقت يضغط عليها، والتدخل الخارجي الحاسم يقترب أكثر فأكثر، وتقاس مدته بأشهر قليلة قادمة؟ هل تضع مصيرها السوري بين أيدي نظام لا سياسة لديه غير العنف، يدير به أزمة شاملة هي الأخطر في تاريخ العرب الحديث، محملة بعناصر الانفجار ومخاطر الصدام بين القوى المحلية والاقليمية والعظمى؟ أم ان موسكو ستسارع قريبا إلى إيجاد حل يحفظ مصالحها بحق ويوقف عملية تدمير البلاد، أيا كان ثمنه؟

([) كاتب وناقد سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى