حذار من القاعدة في شمال إفريقيا
حمد الحدّاد
في شباط (فبراير) 2001، أمر الملاّ عمر، قائد حركة طالبان المسيطرة على أفغانستان، بتدمير التماثيل البوذية القائمة في هذا البلد منذ مئات السنين، بعد أن فرضت طالبان تطبيق الشريعة على طريقتها الخاصة، فمنعت النساء من الدراسة والعمل وأوجبت على الرجال إطلاق اللحى… كل ذلك في بلد يموت عشرات الآلاف من سكانه سنوياً بسبب الجوع والبؤس. بدا للعالم آنذاك أنّ هذه الحادثة لئن كانت مدانة ومرفوضة فإنّها لا تمثّل أكثر من حادثة أفغانية محلية، ودافع البعض عن فرضية أن تكون طالبان قد اتخذت قرار الهدم لمجرّد الضغط على المجتمع الدولي كي يعترف بحكومتها في كابول، وذهبت وفود من الشيوخ لمناقشة الملا عمر في الجوانب الشرعية من قراره، وقليل من صدّق آنذاك أنّ الأمر أعقد بكثير، وأن التشدّد الديني ليس حكماً فقهياً أو موقفاً فكرياً أو مناورة سياسية. ونعرف جميعاً بقية الأحداث، فقد أصبحت قضية التماثيل ثانوية بالمقارنة مع بداية عصر الإرهاب الذي قادته طالبان والقاعدة، وأسفر في نهاية السنة نفسها عن تفجيرات برج التجارة العالمية ثم تعميم الإرهاب في العالم كله. بالأمس كانت التماثيل البوذية تهدم، واليوم تهدم أضرحة الأولياء فـــي تومبكتو، و «اللاعقل» الذي يــــقف وراء الحدثين هو نفسه، والنتيجة ستكون متقاربة قطعاً. فبعد أفغانستان التي فجّرت الشرق الأوسط، ستفتح أفغانستان ثانية في قلب إفريقيا ولن تكون مالي إلاّ البداية. لم يعــــد خافــــياً اليوم أنّ تعاونــــاً وثيقاً أصبح يجمع ثلاثة تنظيمات إرهابية: القاعدة في المغرب الإسلامي، وحركة الشباب في الصومال، وتنظيم «بوكو حرام» في نيجيريا. وهذه الحركات الثلاث يمكن أن تتّفق على التوطّن في شمال مالي تطبيقاً لمبدأ أولوية الجهاد في المنطقة التي تطبّق فيها الشريعة. وثمة جماعات قريبة من القاعدة تحظى في ليبيا بحضور قويّ وتملك كميات رهيبة من الأسلحة، بل أصبحت تونس نفسها معقلاً لما يدعى بالسلفية الجهادية التي ترفع في تظاهراتها شعار «كلّنا أسامة بن لادن»، وأصبحت هذه الحركة المتعاطفة مع أطروحات القاعدة جزءاً من المشهد السياسي كما يفصّله ويريده الإخوان المسلمون المسيطرون على الحكومة. وما زالت هذه الحكومة تتستّر على نتائج التحقيقات في الأعمال الإرهابية التي شهدتها تونس بعد الثورة، فلا ندري على وجه اليقين الجهات المتورطة فيها. والحقيقة أنّ «الربيع العربي» الذي انطلق من احتجاجات الشباب على البطالة والظلـــــم والكبت قد أصبح رهينة في أيد كثيرة تتنازعه وتدّعي أولوية تمثيله وقيادته. فلا عجب في أن يدخل على الخطّ تنظيم القاعدة، بالمعنى الواسع. ولعلّ المجادلة غير المباشرة التي حصلت اخيراً بين الشيخين راشد الغنوشي وأيمن الظواهري قد حملت دلالات مهمّة. فالأوّل يعتبر أنّ «المشروع الإسلامي» (كما يراه) قد تحقــــّق بفــــضل اعتماد العمل السياسي والجماهيري وأنّ قيادة هذا المشروع تعود إلى الإخوان المسلمين الذين سبقوا بإدانة العنف منذ تفجيرات 2001، والثاني يرى أن المشروع نفسه قد تحقّق بفضل تقليم أظافر الولايات المتحدة الاميركية في منطقة الشرق الأوسط ودفعها للتخلّي عن الأنظمة العميلة لها وتوريطها في مواجهات مباشرة كشفت للجماهير المسلمة عداءها للإسلام ولمقدساته. وعلى هذا الأساس يعتبر الشيخ الغنوشي أنّ تدخلات القاعدة حالياً تلحق الضرر بهذا المشروع وتربكه وتلحق به وصمة العنف، ذاهباً إلى حدّ القول بأنّ القاعدة كانت كارثة على الإسلام والمسلمين أينما ظهرت، في حين يتهم الشيخ الظواهري الإخوان المسلمين بإجهاض المشروع الإسلامي وفتح الأبواب مجدّداً للمصالح الأميركية والصهيونية بدعوى الاعتدال والتدرّج. أمّا أميركا نفسها فلم تخف مراهنتها على الإخوان المسلمين لمواجهة تقدّم القاعدة، قبل «الربيع العربي» وبعده، كما لا تخفي القيادات الأميركية قلقها من توسّع نشاطات القاعدة في إفريقيا، وهي لا تفتأ تعزّز وجودها العسكري وعملياتها الاستخبارية بواسطة قوات «أفريكوم» (القيادة العسكرية الأميركية في إفريقيا). وعلى العالم أن يحبس أنفاسه مجدّداً لأننا نتذكّر جميعاً ما كانت نتيجة التدخلات الأميركية في أفغانستان قبل عشر سنوات، فقد أخرج الإرهاب من أوكاره الأفغانية لينتشر وينمـو ويفرّخ في العالم كلّه، فنرجو ألا تترتّب على التدخل الأميركي لمحاربة الإرهاب في إفريقيا نتائج من الصنف نفسه. قد نكون دفنّا الإرهاب والقاعدة بشيء من التسرّع، فربما لم تنته القصّة بمقتل أسامة بن لادن في أيار (مايو) 2011 وإعلان الرئيس الأميركي أوباما من القاعة الشرفية للبيت الأبيض أنّ «المهمّة قد تكلّلت بالنجاح». مؤشرات كثيرة تدفع إلى الحذر الجدّي من دورة جديدة للإرهاب يكون مركزها إفريقيا هذه المرّة، لا سيما مع تواتر المعلومات حول وجود مدخرات بترولية ضخمة في إفريقيا ما تحت الصحراء التي تعمل فيها التنظيمات الإرهابية حالياً وتراقبها القوات الأميركية، ولا شكّ في أنّ اجتماع أجزاء الثالوث «بترول- إرهاب- أميركا» كان دائماً نذير شؤم أينما حصل، وأنّ شمال إفريقيا يقع على الخطوط الأمامية لمواجهات محتملة في المستقبل بين الغرب والقاعدة في الصحراء الإفريقية الشاسعة. الحياة