«حرب آخرين» بدماء السوريين!
ادمون صعب
«فحارب وسالم إن أردت فإنما
أخو السلم في الأيام مثل المحارب»
أبو العلاء المعري
سياسة النأي بالنفس التي يبدو انها أراحت الحكومة لأنها منحتها أعذاراً كثيرة للتقاعس وعدم الفاعلية، بل انعدام المسؤولية، وأبلغ دليل على ذلك فضيحة اللحوم والمواد الغذائية الفاسدة التي كانت تقدم إلى اللبنانيين في السوبر ماركت والمطاعم والفنادق، من دون حسيب او رقيب، هذه السياسة لم تنسحب على اللبنانيين، على مختلف فئاتهم واتجاهاتهم. إذ هم لم يستطيعوا ان ينأوا بأنفسهم بإزاء آلاف الضحايا الأبرياء من السوريين الذين يدفعون منذ سنة، ويومياً، ضريبة المطالبة بالحرية والديموقراطية والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان، من أرواحهم ودمائهم وأرزاقهم.
وأيا تكن مواقف بعض اللبنانيين من النظام السوري، فإنهم لا يستطيعون إلا التعاطف مع الضحايا، وهم في النهاية جيران لهم وإخوان، وأهل وأحباء وشركاء متضامنون في السراء والضراء.
إلا أن التعاطف وحده لا يكفي، خصوصاً عندما يكون هناك من يشجّع على القتل ويضغط في اتجاه الفتن والحروب الأهلية، وهنا يأتي الدور اللبناني في النظر الى السوريين كشعب واحد لا كمجموعة قبائل، كما هم اللبنانيون، بحيث تحزنهم الضحية بصرف النظر عن هويتها السياسية او الطائفية او المذهبية.
وهنا أيضاً يأتي دور الرفض للنأي بالنفس في درء الأخطار التي يتعرض لها الشعب السوري، وعدم تحريض فئة فيه على فئة أخرى، لا باسم السياسة، ولا باسم الدين، والعمل على احتضان الهاربين من جحيم القتل والقصف والدمار، من جانب اللبنانيين كافة، مسلمين ومسيحيين، من دون تفرقة في المذاهب والملل، لأن الإنسان السوري لم يبخل يوماً بالمساعدة والاحتضان على اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومشاربهم، خلال سنوات الشدة بين 1975 و1990، وأخيراً في حرب تموز 2006 حيث لقي الهاربون من جحيمها احتضاناً سورياً كاملاً.
ومن المحزن ان يجد السوريون «اللاجئون» إلى لبنان ملاذاً لدى فريق سياسي وطائفي من اللبنانيين، سواء في الشمال او في البقاع، بينما المأمول والمرتجى ان يكون الاحتضان وطنياً وإنسانياً، لا طائفياً ولا مذهبياً.
كما ان الدولة التي بددت أجهزتها أيام الحكومات الحريرية الهبات والمساعدات وتورطت في فضيحة الـ11 مليار دولار، مدعوة اليوم إلى عدم النأي بالنفس في توفير الأموال اللازمة لهيئة الإغاثة، بغية تقديم المساعدات الغذائية والطبية وحتى التربوية للسوريين الذين عبروا الحدود إلى لبنان، «عراة، حفاة» أحياناً، حاملين الضروري زاداً للطريق على أمل أن يجدوا لدى إخوانهم في الطرف الآخر، العون والإيواء، مدركين حراجة الوضع اللبناني ومقدار تأثره بالأحداث في بلادهم.
ولقد كان الأَولى باللبنانيين المنقسمين على أنفسهم منذ ما قبل اندلاع الأحداث السورية، وقد زادت هذه الأحداث من تباعدهم جراء المواقف المختلفة منها، سواء دعماً للنظام او وقوفاً مع المنتفضين وحتى مدهم بالمال والسلاح والدعم السياسي والمعنوي، كان الأولى بهم ان يجدوا في المحنة السورية حافزاً لهم على التوحّد على الأقل حول إغاثة النازحين وإسعافهم، إذا كان تعذّر الجهد الموحّد لمساعدة الشعب السوري في الجلوس حول طاولة حوار شبيهة بطاولة الطائف او ما شابهها، بدلا من العمل في اتجاه تسعير نار الصراع الداخلي والمساهمة في ما يؤدي إلى تمزيق المجتمع السوري وتهديد وحدة الدولة والأرض والكيان، ما يثلج صدور أعداء سوريا والعرب، وفي مقدمهم إسرائيل وأميركا ومن وراءهما من عرب وعجم.
وإذا كان النأي بالنفس قد نجح إلى الآن في الحؤول دون امتداد نار الحرب السورية إلى لبنان، فإن هذا الأمر قد لا يدوم طويلاً، وسيهدد الوحدة الوطنية في الدرجة الأولى، ويزيد حدة الانقسام بين اللبنانيين.
كذلك ستتهدد الوحدة، من جانب التكفيريين وأمثالهم الذين اخترقوا الجيش، إذا استمر الرافضون للحوار برفض الجلوس حول الطاولة التي دعاهم إليها الرئيس ميشال سليمان، مع ان الأوضاع باتت تفرض الحوار، على ان يكون أمامهم بند واحد، ليس سلاح «حزب الله»، ولا الاستراتيجية الدفاعية، بل الصراع على سوريا، ودور لبنان في المساعدة على تقريب الحلول وتخفيف آلام السوريين.
ويجب ألا يكون هناك خلاف بين اللبنانيين حول سبل تخفيف آلام الشعب السوري، بإشعاره بأن الشعب اللبناني بكل فئاته متعاطف معه ومع حقه في الإصلاح والحرية والديموقراطية ومحاربة الفساد. وان هذا التعاطف موجّه إلى الإنسان السوري الذي يسقط منه العشرات يومياً، جراء تعنّت السلطة وشراستها، وتشرذم المعارضة وتعرض صفوفها لاختراقات مسلحة من أطراف خارجيين سياسيين ومخابراتيين معظمهم لا يريد الخير لسوريا.
وانه لمخجل ان يكون الموضوع السوري عنصر خلاف وتباعد بين اللبنانيين في حين تهزّ المأساة السورية ضمائر الغرباء والأجانب أمثال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي ـ مون الذي قال أول من أمس، وهو في زيارة لإندونيسيا، «ان الوضع في سوريا لم يعد محتملاً، ولا مقبولاً، وان الوقت يكاد ينفد، إذ ان دقيقة او ساعة واحدة ستعني المزيد من القتلى» الذين تجاوز عددهم خلال سنة ثمانية آلاف.
وإذا كان بان كي ـ مون دعا الأسرة الدولية إلى «التوحّد». وأضاف: «إن كنا عاجزين عن التوصل إلى قرار في الأمم المتحدة، فهذا لا يعني ان معاناة الشعب السوري يجب ان تتواصل»، فإنه من المخجل ان يبقى التباعد والانقسام والنأي بالنفس قاعدة التعامل بين اللبنانيين.
ويزداد خجلنا، من اللبنانيين والعرب، لتركهم سوريا تحترق، ولا من يساعد او يسعف، بل هناك من يصب الزيت على النار، عندما نقرأ رواية خروج المصوّر الفرنسي وليم دانيال والصحافة الجريحة من جريدة «الفيغارو» اديت بوفييه من باب عمرو إلى لبنان عبر أنفاق أبرزها قسطل مياه مهجور بقطر 160 سنتيمتراً، وممتد على مسافة أربعة كيلومترات داخل الأراضي السورية.
فقد أبلغ دانيال مجلة «تايم» بعد خروجه الى لبنان ثم مغادرته إلى فرنسا مع بوفييه: «ان ما يقلقني ويجعلني غير مرتاح هو ان محنة أربعة صحافيين غربيين، اثنان منهم قتلا في قصف باب عمرو، قد أثارت اهتمام العالم، بينما مئات من سكان باب عمرو قد لقوا حتفهم من دون ان يهتم أحد بأمرهم. كما تستمر المجزرة في أماكن أخرى من سوريا».
وفي شهادة بشجاعة الشعب السوري وصلابته، قال دانيال: «ان القصة الحقيقية ليست نحن. انها الشعب السوري. وهي، ويا للأسف، قصة لا يمكن ان تروى بكاملها، وحيث الحداد على الضحية يعاقب بالقتل».
انه يقول لنا ان قيمة الإنسان العربي هي على المحك!
ومع احتمال تحول أحداث سوريا إلى ما يشبه «حرب آخرين» على أرضها، تتواجه فيها دول كبرى بالواسطة على حساب دماء السوريين وأرواحهم وأرزاقهم، نتذكر حرب فيتنام وتباهي القائد الأميركي الجنرال وليم وستمورلاند، لدى سؤاله ماذا يفعل 600 ألف عسكري أميركي هناك: «اننا نجرّب أسلحتنا الجديدة»! ثم قول أحد ثوار الفيتكونغ الذي سُئل عن سر العمليات الانتحارية التي يخوضها الثوار ضد القوات الأميركية: «إذا ما قضيت في عملية ضد المحتل الأميركي، فإنني لا أخسر إلا وزني على القبان. إذ لا قيمة للإنسان، إذا ما حُرم من العدالة والكرامة والسيادة والاستقلال».
فحتام ستبقي النعامة اللبنانية رأسها مدفوناً في الرمل؟
السفير