حرب إبادة الشعب السوري وجريمة الصمت
د يحيى مصطفى كامل
في تغطيةٍ لها (ربما كانت الأخيرة) على مجزرة حمص التي ذهبت ضحيتها ضمن كثيرين قالت الصحافية ماري كولفين أن أشد ما يثير الغثيان في القصف الكثيف هو الوحشية وانعدام الرحمة التام الذي يتصف به، وقد كــــررت كلمتي ‘انعدام الرحمة التام’ أكثر من مرة؛ بعد مقتلها نُقل عنها إضافتها أن ما يزيد عن انعدام الرحمة ذاك بشاعةً هو ما يبدو من احتمال أن يفلت ذاك النظام المجرم من القصاص…ليس إلى التشـــكيك في مصداقية هذه الراحلة من سبيل فقد دفعت حياتها ثمناً لتنقل الحقيقة فيما يعد أشرف مثالٍ على الالتزام الأخلاقي للصحافة حيال المسؤولية عن نقل الحقيقة، وبالتالي إعطاء الصوت للضحايا والثكالى والمظلومين…
استحضرت هذه الكلمات وثمنها المدفوع دماً بمزيج ٍ من الإشفاق والمرارة وأنا أتابع مجريات لقاء ‘أصدقاء سورية’ الذي من المفترض أن يجد ‘حلاً’ لهذه المأساة، أو هكذا يزعم المشاركون…أنا هنا لا أعني المجلس الوطني، فهو لا يمثل دولةً بأجهزتها ولذا فهو لا يملك، للأسف، سوى الضغط أو محاولة الإقناع وسيلةً، وإنما يعنيني موقف الدول المشاركة من قوى كبرى وإقليمية وأيضاً تلك التي لم تشارك لما لها من دورٍ لا يقل أهميةً، بل ربما يزيد عن الباقين…
بدايةً، إني لأتحفظ بشدة على مسمى ‘أصدقاء سورية’ الذي اختير عنواناً للمؤتمر، فقد تبين أنه خلا السوريين الحاضرين (وربما بعض الأشقاء العرب من قبيل حنين الدم) فإن أحداً لا يأبه كثيراً للدم السوري المسفوك ولعل عنواناً ك ‘المسألة السورية’ أو ‘القضية السورية’ كان أجدر بالتعبير واختصار الذهنية الحاكمة للدول ذات المصلحة، ولما كانت هذه اللحظة الكارثية فارقةً في تاريخ منطقتنا وفاصلة ً في مشروعها الحضاري المتعثر والاستقلالي فإنه يتعين علينا أن نصف الامور كما هي ،على حقيقتها، بلا مساحيق ولا زواق يداري او يخفف من أثر قبحها وقسوتها.
…ليس للشعب السوري من دولةٍ صديقة، هذه هي الخلاصة المؤلمة…كما تبين بعد أحد عشر شهراً أن كل الدول المعنية، شرقاً وغرباً، لم ترد رحيل ذلك النظام، كلٌ لأسبابه، يتساوى في ذلك أمريكا وإسرائيل اللتان اشُتهر عنها العداء لذلك النظام والروس حلفاؤه التقليديون؛ ربما يشذ عن ذلك النظام السعودي وبعض المشيخات من منطلق تاريخ المنافسة والمكايدات والمــــزايدات التافهة والصغيرة بينها وبـــين نظام دمشق، إلا أننا ندرك تمام الإدراك أن هذه الدول على ثرائها لهي من ضآلة الشأن بمكان يحرمها من أي تأثيرٍ فعال، وإنما متروكٌ لها رفاهية الالتماس والتوسل لدى القوى الحقيقية بالإضافة إلى تنظيم المؤتمرات والإدلاء بالتصريحات على أن يوافقوا مع ما تقرره الدول الحقيقية في النهاية.
لست من السذاجة بمكان ولا من التبجح لأزعم أن موقف أمريكا من ذلك النظام يتطابق مع الموقف الروسي والصيني، إذ أنني حينها أكون متجاوزاً للتاريخ وخاصةً في هذه المنطقة المحدودة جغرافياً لكن الزاخرة بالأقليات والطوائف المتصارعة على البقاء والنفوذ، إلا أنني أؤكد ان النظام السوري ذلك استغل سورية بلداً وشعباً في خدمة مشروعٍ يكرس لبقاء وازدهار وحكم آل الأسد المطلق ومن التف حولهم ولحق بهم لاسبابٍ تتفاوت من العشائري والطائفي إلى المناطقي والمصلحي البحت وإن غُلِّب العشائري-الطائفي للأسف؛ بيد أن الأسد الأب كان من الذكاء والدهاء بمكان فقام بستر وتغليف تحالفات المصالح الداخلية والقبضة الأمنية بورق هدايا لامع وذهبي من موروث الرطانة البعثي العروبي الوحدوي التقدمي رافعاً العديد والعديد من اللافتات والشعارات وما أوفرها.
لكن ذلك لا ينفي أنه لعب اللعبة في تلك المنطقة من شرق المتوسط وفقاً للتقاليد المحلية المتحدرة من القرون الوسطى من عصور ما قبل الدولة الحديثة كشيخ أية طائفةٍ أو عشيرة تصارع للبقاء والنفوذ وإن تظاهر وادعى عكس ذلك…لذا فقد تحالف مع فصائل وطوائف ودعم غيرها لينقلب عليها ويدعم أعداءها، كما لم يتورع عن استخدام العنف الدموي والقسوة المفرطة وفقاً لتغيرات الفصول ورياح المصالح المتقلبة في منطقةٍ ديدنها التحولات الموسمية؛ بطبيعة الحال لم يكن وحده، فالكل له مصالحه والكل يصارع من أجل بسط نفوذه ودفع حدوده، وضمن هؤلاء إسرائيل اللاعب الأقوى في المنطقة وحليفها الطبيعى أمريكا على أعتاب المنطقة النفطية الأثرى في العالم والتي لن تقبل أمريكا بمجرد المساس بمصالحها فيها… لذا لم يتبق لروسيا وسورية سوى بعضيهما البعض يمنح كلٌ منهما للآخر شيئاً مما يحتاج فتحظى سورية بالسلاح المتطور والدعم وتحرز روسيا موطئ قدمٍ أخيرٍ لها في المنطقة مع جائزةٍ ثمينة تتمثل في قاعدةٍ بحرية على شواطئ المتوسط الدافئة.
لكن قطر السياسة والأحداث متحرك، وبقيام الثورة السورية المجيدة وجدت كل الدول نفسها أمام معطياتٍ جديدة، فأمريكا مرهقة اقتصادياً وعسكرياً، وهي نزفت وما تزال في أفغانستان ومن قبل ذلك في العراق…قوة عظمى يتعثر مشروعها ويتهدد نجمها عمالقة جدد، وهي وإسرائيل مهجوسان بذلك وبمشروع إيران النووي ونفوذها…يجوز أن النظام السوري ناوأهما ودعم إيران وحزب الله، إلا أنه فعل ذلك وفقاً لقواعد اللعبة في المنطقة، كما أنه يعرف حدوده جيداً فيقف عندها،فهو يبقي جبهة الجولان هادئةً تماماً…و علينا ألا ننسى تحالفه مع أمريكا حين اقتضت المصلحة في حربها مع عراق صدام حسين، عدوهما اللدود حينذاك… لكل ما سبق تجد إسرائيل وأمريكا حريصتين فعلياً على بقائه، إذ تنطبق عليه المقولة الإنجليزية ‘ الشيطان الذي تعرفه’، الذي هو تعريفاً وبداهةً أفضل من ذاك الذي لا تعرفه و لا تستطيع أن تتنبأ بتصرفاته وهو في كل الأحوال أسلم وآمن من احتمال صعود نظامٍ وطنيٍ ديمقراطيٍ حقيقي يولد من رحم الثورة فيناصب إسرائيل عداءً حقيقياً لا هوادة فيه…
كل الدول تريد بقاء النظام ولاتريد أي تغييرٍ حقيقي في المنطقة يطرح واقعاً مستجداً بمفرداتٍ وتوازناتٍ جديدة، وعلى رأسها إسرائيل، فقد بات من نافل الذكر ومكروره التذكير بتطمينات السيد مخلوف…لقد صبروا على بشار طويلاً أملاً في أن يحسم هذا الصراع، وإن بتكلفةٍ بشريةٍ هائلة، لكن المشكلة أنه وضعهم في مأزق ٍ حرج إذ على رغم عنفه ودمويته المتصاعدة بلا حدود لم يستطع إخماد الثورة، و أمام مرأى ومسمع الإعلام ورأي ٍ عام عالمي متحفز بات هذه النظام يشكل عبئاً وفضيحةً كارثيةً نظراً لهمجيته ووحشيته وبشاعته وإبادته لشعبه الغير مسبوقة في التاريخ…
لم يتبق أمام أمريكا وسائر القوى الغربية من مفر سوى الإدانة والاجتماعات والتصريحات حفاظاً على واجهتها المنحازة للحرية ودعايتها الديمقراطية التي تشكل جُل بضاعتها من القوة الناعمة ثم يشفعون ذلك بحديثٍ ممجوج وخلافات عن تشرذم قوى المعارضة والمخاوف من الإسلاميين والقاعدة الخ…
خلاصة القول أن ‘أصدقاء ســـورية’ من الدول هم أصدقاء النظام السوري أو المهتمون بمصيره وبلعبة التوازنات والمصالح الإقليمية، وهم لا يكترثون بمصير الشعب السوري إلا بمقدار ما لحراكه من تأثيرٍ على مصالحهم…إنهم والنظام السوري يتصارعون ويتفاهمون على كيفية السيطرة على سورية شعباً وو أرضاً، يذكروننا في ذلك بتقاسم تركة رجل أوروبا المريض تركيا قبل ذلك بنحو قرنٍ من الزمان، ليس أدل على ذلك من أن الشعب السوري بعد ما يقرب من التسعين عاماً على ثورته الكبرى والأربعين عاماً من حكم آل الأسد يناضل ضد حكم الأخيرين الغاشم كأي سلطة احتلال باستثناء أنها أكثر قسوةً ووحشيةً بما لا يقاس.
فيما مضى كنا نتهم الغرب بالكيل بمكيالين حيال تعديات إسرائيل، وها هو قد أبطل حجتنا بجريمة الصمت المتستر بغث التصريحات حيال إبادة الشعب السوري على يد ذلك النظام المجرم.
لكن الثورة مستمرة وستنتصر ولن يفلت الأسد وأعوانه…لقد بات من المستحيل الرجوع بعقارب الساعة إلى الوراء وهذا هو ما تدركه رغماً عنها سائر القوى المعنية…للأسف سوف تنزف سورية المزيد من دمائها للخلاص إلا أنها سوف تولد من جديد حرةً وبلا أوهام لكي تستدرك ما فاتها في الزمن الضائع.
‘ كاتب مصري
القدس العربي