صفحات العالم

حرب المواقع الطائفية


سليمان تقي الدين

يلامس الأطراف اللبنانيون حدود الانزلاق إلى العنف الشامل، ويعودون إلى إيجاد حلول سياسية مؤقتة، وتحولت السياسة اللبنانية إلى مجموعة من الهدنات والتسويات الظرفية علّ وعسى تنجلي صورة المشهد الإقليمي، فيتبع لبنان التوازن الذي ينتهي إليه .

لكن هذه الصدامات الجزئية والموضعية المتنقلة من منطقة إلى أخرى، تضع البلاد في مناخ مسموم بحيث لا تحتاج إلى كبير جهد لكي تتورط القوى السياسية ذات الاستعداد المسلح، إلى خوض المواجهة حين تلوح في الأفق احتمالات الحسم في هذا الاتجاه أو ذاك .

اللبنانيون، جمهوراً أو فئاتٍ غير حزبية، هم أبعد ما يكون عن الحماسة لأي صدام، وشأنهم اليوم أقل بكثير من لحظة اندلاع الحرب اللبنانية أواسط سبعينات القرن الماضي . ليس هناك من قضية تستحق أن تنخرط فيها أوسع القطاعات الشعبية، ذلك أن الصورة هي توتر مذهبي محكوم بأن يجد حلاً له بالتعايش تحت سقف الدولة ولو على تعديل معين في ميزان القوى أو السلطة . إذا صح ذلك، وهو ما تؤكده كل التطورات التي أظهرت عدم استجابة من الشارع الواسع للالتحاق بالقوى الحزبية في أي مكان، فإن الفرصة متاحة لأن يتوسع الحوار الوطني إلى الموضوعات التي تعالج المشكلات ولا يقتصر على النتائج الطارئة، كالتوترات الأمنية وظاهرة اتساع انتشار السلاح .

فشلت جولتا الحوار الوطني في الخروج بقرارات أبعد من التهدئة، والوعود بالعيش المشترك، والتبرّؤ من الفتنة، ورفع الغطاء عن المسلحين الذين يمارسون بعض أعمال الشغب . لكن هذه التوجّهات لم تصمد أمام حاجة فئات من الجمهور غير الحزبي أو غير المرتبط بالقرارات الكبرى، لكي يمارس بعض أشكال الاحتجاج، فلا الأحزاب الكبرى تستطيع السيطرة عليه، ولا مؤسسات وأجهزة الدولة . يدل الأمر على حال من الاهتراء السياسي والأمني ومن التأزم الاجتماعي الذي أدى إلى نوع من الفوضى، وهي ليست قليلة الخطورة حتى لو أحجمت الأحزاب عن الخوص فيها .

لقد انتشر السلاح في بيئات طائفية واسعة لأسباب سياسية، وهناك مجموعات فرّخت على هوامش الطوائف وأحزابها، وهناك عشائر وعائلات باتت تتصرف على أنها مسؤولة عن أمنها الذاتي بسبب المناخ العام الفوضوي .

ففي كل مرة ينزل هؤلاء إلى الشوارع يمكن أن يستدرجوا الآخرين أو يفرضوا عليهم نوعاً من التورط السياسي .

لم يعرف لبنان من قبل مثلاً الخطف بداعي الحصول على الفدية، ولو كان عرف الخطف على الهوية الطائفية . الخطف السياسي يمكن أن يكون من جهات سرّية وقادرة على ممارسة هذا النوع من الجرائم البشعة وتحمّل نتائجها، لكن الخطف بهدف الحصول على الفدية ظاهرة تدل على انهيار هيبة الدولة وهيبة الأحزاب التي تمارس سلطتها على مناطق نفوذها .

في الشمال والجنوب وقعت أحداث أمنية وحصلت تظاهرات واعتصامات لم تكن مجازة من أحزاب الطوائف، لكنها أصبحت تقليداً بسبب وقوع الأحزاب تحت وطأة مزاج جمهورها الطائفي والمذهبي وعجزها عن كبحه .

تحولت هذه التحركات إلى حرب مواقع تتم بوساطة قوى هامشية، لكنها تحمل مطالب طوائفها وتلعب على الغرائز وعلى التحريض الطائفي . وقعت الأحزاب في ورطة أمام هذه المجموعات، لأنها لا تقدر على التصدي لها ولا تقدر على معالجة تلك الشعارات أو المطالب .

كان لافتاً أن أحد أهم القوى الحزبية المسلحة التي دافعت طويلاً عن وضعها الاستثنائي وعن أمنها الذاتي، دعت إلى إيكال الدور إلى الدولة في جميع القضايا وتنصّلت من مسؤولياتها عن الأمن السياسي والاجتماعي .

لكن دور الدولة هذا لن يكون ممكناً إلا بإجماع الفرقاء على طبيعة السلطة وتوازن القوى فيها، وهذا ما لم يوضع حتى الآن على جدول الأعمال . بمعنى آخر ما نقوله عن أهمية الحوار في كيفية استيعاب كل الظاهرات الشاذة داخل مشروع الدولة، هو الأمر الذي لم تطرحه للنقاش هيئة الحوار الوطني، وبقي نوعاً من الهمس أو من المطالب الضمنية والخفية التي تختبئ خلف عناوين صلاحيات المؤسسات والأجهزة . فلن تتوقف إذاً، حرب المواقع، وقد تتسع ما لم يحسم الفرقاء الأساسيون أمرهم ويطرحوا مسألة النظام السياسي كلها على بساط البحث .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى