صفحات العالم

حرب طرابلس أصالة ووكالة

 

                      سليمان تقي الدين

الحرب الدائرة في طرابلس أصالة عن طرفيها، ووكالة عن آخرين في لبنان والخارج، تنذر بإعلان فشل الدولة الكامل، وتفتح احتمالات اتساع بؤر التوتر وخطوط التماس وانهيار السلم الأهلي.

في المدينة الفقيرة والمهمّشة التي يبلغ تعداد سكانها حوالي نصف مليون نسمة يتربع في السلطة رئيس الحكومة وأربعة من الوزراء نصفهم من مليونارية البلد ومن أبنائها. لم تنل طرابلس النازفة منذ سنتين أية معالجة سياسية، ولا أية تدابير لاحتواء ظاهرة العنف المسلح، ولا طبعاً معالجة المشكلات الاجتماعية التي تعتبر البيئة المساعدة لظاهرات العنف والتسيّب.

تهيّبت الدولة الخوض في مواجهة الجماعات المسلحة على فرض وجود شرعية طائفية لهذا السلاح. ليس السلاح الموجود من النوع الفردي الذي لا يخلو منه أي بيت لبناني كما يدّعي المسؤولون عادة. بل ان السلاح المنتشر في لبنان كله ولدى الأحزاب والجماعات كلها هو من نوعيات قادرة على فتح جبهات أهلية كبيرة وإقامة مناطق خارجة عن سلطة الدولة.

نشأ هذا الوضع عن الانقسام السياسي العميق الذي تلى خروج القوات السورية بفعل القرار الدولي 1559 وتداعياته. وخلافاً لكل ادعاء سهّلت الحكومات آنذاك استيراده وقد اختبرته القوى اختباراً محدوداً في 7 أيار 2008.

لا شك بصعوبة القول بوجود توازن عسكري مع الفرقاء. لكنّ للحرب الأهلية قواعد وشروطاً مختلفة عن الحروب الأخرى، بدليل نموذج حرب المواقع في طرابلس برغم عدم التكافؤ بين معطيات الطرفين، عسكرياً لمصلحة جبل محسن وبشرياً لمصلحة باب التبانة. والأهم من كل ذلك معرفة جميع الأطراف بالاستحالة السياسية لمغامرة إلغاء أي طرف لبناني.

يترتب على ذلك صحة القول بعبثية المشهد العسكري في 7 أيار 2008 أو في طرابلس أو سواها من توترات حصلت وأدت إلى صدام مسلح. بل ان احتواء بعض مظاهر القوة المسلحة سياسياً يشكل نتيجة أفضل في إضعافها أكثر من أي تصادم معها. على أي حال يشكل العنف المسلح امتداداً للصراع السياسي عندما تفشل السياسة، والأصح عندما يفشل السياسيون في التعامل مع المشكلات المطروحة.

المشكلة في طرابلس أن الطرفين يعتقدان أن موقعهما مرهون إلى ما ستسفر عنه التطورات السورية فيفقد أحدهما الحاضنة الإقليمية ويكسب الآخر والعكس صحيح. هذا الاعتقاد ليس وهماً خالصاً ما دامت الجماعات تتصرف على أنها بقوتها الذاتية تضمن حقوقها أو مصالحها وليس من خلال سلطة الدولة. ذلك كان في أساس انطلاق الحرب الأهلية اللبنانية ولا يزال مصدر تجدّدها.

من السذاجة دعوة الطرفين ومن خلفهما إلى وقف العنف والاحتكام إلى الحلول السياسية والحوار. أزمة طرابلس ليست أزمة محلية، أو أنها معزولة عن الانقسام الوطني وعن النزاع الإقليمي. يقاتل الطرفان أصالة عن أنفسهما ووكالة عن الآخرين. فالحكومة حين تقف عاجزة عن إطفاء الحريق ووقف النزيف في منطقة معينة فلأنها تعرف حجم المشكلة الأكبر التي تحتاج إلى قرار وطني.

ما يحصل في طرابلس هو قرار بإبقاء عناصر التوتر واستخدامها في تبرير الانقسام الأوسع والأكبر. هناك من يستخدم النزاع في طرابلس، والأحرى هناك من يدير هذا النزاع على فرضية تجميع الأوراق لصياغة غلبة من القوة المادية هذه المرة على الواقع اللبناني كله. لذا يحتاج الوضع في طرابلس إلى تفاهمات على المستوى الوطني وخاصة على نزع السلاح فعلاً وتعطيل مخططات استخدام العنف لحسم قضايا الداخل اللبناني.

على هذا المستوى يتشارك الجميع بالمسؤولية عن هذا الانخراط في النزاع الأهلي وعن تبرير العنف المسلح لأهداف ليست حقيقية. المسألة الفعلية أن نقرر كلبنانيين قبولنا العيش معاً وتنظيم هذا العيش في إطار من الحرية والمساواة والشراكة وأن لا تكون لأية جماعة امتيازات من أي نوع كان على الآخرين.

إما أن يكون هذا الخيار محل إجماع وإما أن تتسع وتتعمّق الهوة بين الجماعات إلى الحد الذي لا تعالج فيه إلا على أساس التقاسم الجغرافي بعد هذا التقاسم الوظائفي. ليس مهماً مَن هو الطرف الذي يبادر إلى اقتراح صيغ فض الشراكة، بل المهم هو مَن يتصرف على أساس تجاهل مصالح الآخرين وحقهم في الشراكة.

ولعله من الواضح أن لبنان لا يشكّل بجميع مكوّناته قوة مرجحة لأية خيارات إقليمية، أو يستطيع أن يضمن سلامته ووحدته واستقراره إذا غامر أي طرف في زجّه بالصراع الكبير. فلقد شهدنا مؤخراً ما يمكن وصفه بترتيبات إقليمية دولية لبعض المواقع والأدوار من مصر إلى غزة، وإلى السلطة في الضفة الغربية، كما نشهد هذا الاستعصاء في الولادة العسيرة للنظام الإقليمي، خاصة من باب الأزمة السورية والعجز عن حسمها في ظل التوازنات الدولية. ومن باب أولى أن يدرك اللبنانيون بمن فيهم الأكثر قوة وفاعلية وجهوزية، أن الوضع اللبناني صار ملحقاً بهذه التطورات الخارجية وهي التي تصوغ المشاريع الكبرى وإن لم تكن وحدها ستصوغ النظام اللبناني. إلا أن النظام اللبناني لن يكون متحرراً من توازناته التي لا تسمح بأي إخلال بقاعدة «اللاغالب واللامغلوب» على مستوى المكوّنات الأساسية. فقد هضم لبنان وطحن ظاهرات أكثر عمقاً وجذرية واستقطاباً من كل المشاريع الطافية اليوم، لأنها في مكان ما سلكت المعابر الطائفية ورست عند المعادلات الإقليمية. فهل يتواضع اللبنانيون لينقذوا لبنان من محنة حروب الطوائف ليفتحوا آفاق البحث عن لبنانهم الواحد حيث لا وطن بديلاً؟

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى