حرب مدن ام حرب عصابات؟: ميشيل كيلو
ميشيل كيلو
عندما يكون من الضروري ان يكتب مدنيون من امثالنا عن شؤون عسكرية تخص الثورة ، يكون هناك غالبا خلل ما في الأوضاع العسكرية يطاول طريقة إدارتها وعمل قياداتها وما تطبقه من خطط ميدانية . ومع أن معظم ما سيرد في هذه المقالة من ملاحظات يمكن ان يكون غريبا عن تفكير ضابط نابه في الجيش الحر ، فإن وصول الحال الى ما هي عليه ، والتردد الملحوظ في إصلاح ما وقع من أخطاء انتجها نمط الاستراتيجية التي قبلها الجيش الحر ، يوحيان بوجود أزمة في المجال العسكري تشبه أزمة الوسط السياسي المعارض ، المتهافت إلى درجة جعلت منه عائقا أمام انتصار الثورة .
ومع أنني لن أتوقف هنا أمام جميع جوانب ما يسمى عادة الجيش الحر ، فإنني ساهتم بجانب من بنيته يتصل بأعداد المدنيين الكبيرة فيه ، الذين يشكلون قوام قواه المقاتلة الرئيس، ويطبعون نشاطه بسمتين رئيسيتين هما : أولا : تبعثره المكاني وما يترتب على ذلك من انفلاش في قرارات وحركات قادة مئات الكتائب التي تحمل اسمه وتنتشر في كل مكان ، وتتوزع غالبا على أكثر من تشكيل في الموقع الواحد، مع ما ينتج عن ذلك من تضارب في المواقف العسكرية، وارتجال في التعامل مع الوقائع ، وتصرفات غير منضبطة تجاه المواطنين والممتلكات العامة والخاصة ومؤسسات الدولة. ثانيا : وجود فجوة بين عدد ودور العسكريين المحترفين المنشقين عن جيش النظام والمدنيين المنضوين في الكتائب ، الذين يدافعون غالبا عن أهلهم في مناطق سكنهم ، تتفاقم آثارها السلبية بسبب قلة عدد المحترفين واختلافهم عن المدنيين ، الذين يميلون إلى عدم الانضباط ويعتقدون أن الثورة تعفيهم من إطاعة غيرهم، والالتزام بما تتطلبه الإمرة من رضوخ للقادة، لذا ، يصعب في حالات كثيرة تجميع المقاتلين والمقاومين خارج مناطقهم، لتسديد ضربات مركزة ومحكمة إلى جيش السلطة ، المنضبط عسكريا الى حد ما والقادر على تعبئة قواه ونقلها إلى أماكن يريد مقاتلتها أو قصفها . بارتباطهم باماكن عيشهم وبأسرهم ، يميل قسم كبير جدا من مقاتلي الجيش الحر والمقاومة إلى البقاء في أماكن عيشهم ، فإن كانوا مدينيين بقوا في مدنهم وإن كانوا قرويين رابطوا داخل قراهم ، وفرضوا ضربا من الثبات المكاني على الحرب وحولوها الى حرب مدن وقرى تتسم غالبا بطابع دفاعي، مع أن مواجهة جيش النظام المتفوق تتطلب شن حرب عصابات وحركة تغطي عملياتها كل مكان ولا تتوقف في اي وقت ، تعتمد اسلوب تجميع القوى بسرعة وسرية في أوقات ملائمة لتحقيق تفوق موضعي كبير على القوى المقابلة ، قبل نشرها من جديد عقب تنفيذ أعمال القتال المطلوبة ، تفاديا للخسائر التي قد تلحق بصفوفها بعد استقدام نجدات الجيش الرسمي، الذي لا بد ان يتعرض لعملية حت وتآكل دائمة وحثيثة تقوض تماسكه ومعنوياته وتربك قادته وتفقدهم بمرور الوقت زمام المبادرة الاستراتيجي بفضل عمليات متفرقة ، ما دموا يفقدون زمام المبادرة التكتيكي مع اطلاق اول رصاصة ضد قواتهم .
بهاتين السمتين ، اللتين تصفان نمط قيادة محلي الطابع غالبا، يتمثل في رجال دين مسالمين وزعماء حارات ومثقفين لا يعرفون شيئا عن علم الحرب، وبالارتباط المكاني الضيق لهؤلاء “القادة” الذي يجعلهم يفقدون ادوارهم ان هم غادروا مناطقهم ، تحولت حرب العصابات المفترضة والمطلوبة إلى حرب مدن وقرى ، وخضعت أكثر فأكثر لجهات محلية مقاتلة أو رمزية الدور والمكانة ، فرض النظام خياره العسكري عليها من خلال تحويل المدن والقرى إلى ساحات مواجهة قتالية ، ليس فقط لأنه اراد تدميرها ، بل كذلك لانه اراد ارغام هذه الزعامات على الاحتماء بالسكان وبالمباني الاسمنتية ، التي قد تشكل ملاذات آمنة نسبيا ضد هجمات مشاة مزودين ببنادق آلية فردية واسلحة متوسطة وحتى ضد المدرعات الخفيفة، وقد زاد من الرغبة في القتال المكاني ان القيادات المحلية استمدت مواقعها وأدوارها من مناطقها الخاصة ، وجندت قواها المحلية بدورها، الملتصقة بأسرها وحاراتها . ربما كان هذا يفسر بعض الاسباب التي جعلت من الصعب شن حرب عصابات منظمة وشاملة ضد السلطة ، ولماذا اخذت الحرب طابعا مجزءا ومبعثرا، وافتقرت إلى التنسيق والتكامل حتى ضمن مناطق واحدة ، ولماذا غاب التواصل الى درجة انه وقع أحيانا قتال في احد الاحياء دون أن تسارع الأحياء المجاورة إلى نجدته ، رغم أن استيلاء النظام عليه كان يضعفها ويحدث أثرا سلبيا مباشرا على قدراتها . اخيرا ، ربما كان ما سبق قوله يفسر ايضا السبب في قيام مقاتلي القرى بتحريرها ثم الدفاع عنها في المدن القريبة منها ، كما حدث في حلب . ولماذا اعتبر التحرير مساويا للقضاء على وجود النظام المادي في مناطق القتال ، ولدحر قواته ومحاصرته في المدن، ولم يركز على تفتيت قواه وتشتيتها وقضمها التدريجي عبر معارك تزداد تنظيما وانتشارا وكثافة بمرور الوقت إلى أن ينهار ويستسلم موقعا بعد آخر ، بعد ان تتم يتم تقطيع طرق مواصلاته وخطوط امداده وضرب مراكزه العصبية ويحاصر في مركزاه الرئيسة الى ان يجبر على الاستسلام .
لم ينجح الجيش الحر في فرض رؤية عسكرية قريبة من اسلوب حرب العصابات ، وكيف نفسه وخططه مع حرب المدن ، واعتمد طرقا دفاعية في القتال تترك ما يكفي من المبادرة في يد العدو ، ووجد نفسه يقاتل في شروط صعبة، اتكالا على قاعدة عسكرية تقول إن المهاجم بحاجة إلى ثلاثة اضعاف المدافعين كي يحقق الانتصار ، وبما أن عديد المقاومين كان أصغر بكثير من عديد جيش السلطة ، وسلاحهم أضعف بما لا يقاس من سلاحه، فقد تم الركون إلى الميل الدفاعي، ووقع التحصن بالمدن وأماكن الكثافة السكانية ، وتحولت الحرب الى حرب مواقع ، رغم انخراط معظم الشعب في الثورة ونزوله إلى الشارع وانخراط اعداد هائلة منه في المقاومة واستعداده للقتال حتى الموت ضد النظام !.
واليوم ، وقد حافظ النظام على جميع المدن المهمة – باستثناء الرقة التي اعلن عن تحريرها يوم 4/ 3 / 2013- والمراكز الإدارية الحاكمة، وتحولت المدن الى ركام ، وتشرد سكانها ورحلوا إلى مناطق بعيدة ، وجرت عملية إفقار مرهقة للمواطنين ربطت وجودهم بالمساعدات والمعونات الإغاثية ، واستشرت وتفاقمت ظاهرة المدني والعسكري ، وتوطدت اعراض التراخي في الانضباط ، وغامت الامور وتكاثرت حوادث الخطف وفرض الاتاوات ، ودخلت عناصر من العالم السفلي على خط السلاح وبرزت جهات تحول” ثورتها” إلى تجارة رابحة ، وتشكلت تنظيمات مسلحة على درجة كبيرة من التنظيم والتدريب والتسليح ، تنشط خارج الجيش وتسلسه التنظيمي والهرمي ، دون أن يحجب هذا كله الامثلة الفذة من الشجاعة ونكران الذات، التي نراها بصورة خاصة في داريا والمعضمية ، وجوبر، والرقة ، وحمص العدية ، التي تتحمل منذ عام ونصف العام ثقل ضغوط عسكرية هائلة تمارسها عليها قوات تتفوق كثيرا على ما لديها من اسلحة وقدرات ، لكنها فشلت في كسر شوكتها أو احتلالها، رغم أنها قاتلت طيلة هذا الوقت دون مساندة كافية من الخارج ، ولم تجد إلى اللحظة مرجعية عسكرية تدمج معركتها في إطار وطني واسع يرفع الضغط عنها ويحول دون سقوطها ، في حين كان من الممكن تحويلها من معركة تقصم ظهر الثورة إلى معركة تقصم ظهر النظام ، وتحسم معركة دمشق ، ربما دون قتال .
يواجه الجيش الحر تحديا حقيقيا هو إيجاد طريقة في القتال توفق بين انماط المعارك الثابتة ومعارك حرب العصابات والحركة والمعارك النظامية الكبيرة، بالنظر إلى وجود وتفاعل هذه الأنماط الثلاثة من الحرب بصورة متزايدة على الأرض السورية ، التي صار من المحتم تفعيل الحلقة الوسيطة منها ، حلقة حرب العصابات المتحركة والشاملة : أولا : لمنع النظام من تحشيد وتعبئة قوى كبيرة ونقلها من مكان إلى آخر ، حيث يشن بواسطتها هجمات كبيرة كالهجوم الذي يشنه اليوم في حمص وريف حماه . وثانيا : لأن وجود فائض قوة لدى الجيش الحر يوفره تحرير مناطق متزايدة الاتساع من البلاد يخلق ظروف تحويل القتال الى حرب عصابات شاملة قابلة للتحول إلى معارك كلاسيكية كبرى، حيث تسمح موازين القوى المحلية والوطنية العامة بشنها .
تنامت قوة الجيش الحر حتى صار وضعه يسمح اكثر فاكثر بإدارة وحداته ككتلة واحدة أو ككتل متشابهة الهياكل والمهام ، من الضروري استخدامها على نطاق واسع خارج المناطق التي ترابط فيها الآن ، مع ما يستوجبه ذلك من بناء هيئات تخطيط وتوجيه قادرة على إدارة معارك متشعبة ومعقدة تحتاج إلى تنسيق وإشراف لحظيين، وجهاز إمداد وتموين متطور وحاضر في كل مكان، وإلى عدد وافر من الضباط الميدانيين ذوي المراتب القيادية والوسيطة ، الذين يجب ان يوجدوا مع الوحدات المقاتلة،وأخيرا إلى وجود خطط تحدد بدقة اولويات المعركة ومستلزمات التمهيد لها والمهام التي ستتكفل مختلف القوات بتحقيقها ، سواء كانت عاملة أم احتياطية .
أكرر من جديد أنني لست عسكريا ، وأنني اتحدث في شؤون عسكرية كي اثير نقاشا أثق تمام الثقة أن هناك من يحسن خوضه خيرا مني ، كان فتحه والحديث عنه بصراحة هدفي من هذه المقالة .
المدن
بلا بلا بلا متل كل احاديث ميشيل كيلو