حروب التغيير الديموغرافي في سوريا/ بكر صدقي
ما بدأ في بلدة القصير على الحدود اللبنانية، في ربيع 2013، تحول، بمرور السنوات إلى سياسة منهجية لم تعد خافية على أحد، ولا لمزاعم «محاربة الإرهاب» أن تغطي عليها، وأصبحت قوافل الباصات الخضراء الشهيرة رمزاً لإفراغ سوريا من «وزن ديموغرافي زائد» يعكر صفو «المجتمع المتجانس» الذي يحلم به بشار الكيماوي وقاعدته الاجتماعية المتجانسة. وهو الأمر الذي فشلت دولة إسرائيل في تحقيقه بالتخلص من فلسطينييها ـ أصحاب الأرض الأصليين ـ للوصول إلى «الدولة اليهودية» الصافية المأمولة لدى الإسرائيليين الأشد تطرفاً.
فهل ينجح نظام الأسد الكيماوي فيما فشلت فيه شقيقتها اليهودية؟ هذا سؤال للمستقبل، يتوقف الجواب عليه على تحولات سيالة يشهدها الميدان السوري والمناخ الدولي غير المستقر معاً.
كان الكاتب الأردني المرحوم ناهض حتر سباقاً وفصيحاً في تعبيره عن الرغبة في إفراغ سوريا من كم سكاني بلا فائدة وصفه بأنه «غير قابل للتعددية الحضارية» الموجودة في سوريا حسب زعمه، تلك «الزيادة» التي تم التخلص منها بالتهجير، بواقع نحو سبعة ملايين لاجئ تشتتوا بين دول الجوار والدول الأبعد في أوروبا وكندا، ومثلهم أولئك المهجرون داخل سوريا. المقالة التي ورد فيها هذا الكلام لم تحتملها جريدة الأخبار اللبنانية الممولة من إيران، فكفت قلمه المسموم عن الكتابة فيها بسبب فضائحية النفس الطائفي الأقلوي المبثوث فيها. مع العلم أن حزب الله الذي تنطق جريدة الأخبار بلسان حاله كان رأس الحربة في معركة القصير، كما في المعارك الأخرى التي سلكت المسار نفسه: حصار خانق، تجويع، قصف يومي، وصولاً إلى استسلام الفصائل المسلحة المتمركزة في المدينة أو البلدة، ثم ترحيل السكان المدنيين مع المقاتلين في الباصات الخضراء. فالحزب الطائفي الذي يتباهى بشيعيته كما بولائه لإيران، مارس التغيير الديموغرافي عملياً، لكنه لا يريد أن يقر علناً بهدفه هذا، أو أن يتحدث أحد عن ذلك. لذلك تعامل مع حالة الكاتب الأردني الممانع كما لو كان «مجنون القرية» الذي تبرأ الحزب من فصاحته الطائفية الفاضحة.
صحيح أن الشيعة في سوريا أقلية ميكروسكوبية بالمعيار العددي والنسبي، وفشلت إيران في تكبيرها عبر حملات التشييع مدفوعة الثمن، طوال سنوات ما قبل الثورة والحرب، ولا يمكنها الآن أيضاً الوصول إلى الهدف ذاته مهما بلغت حملة تجنيس شيعة متعددي الجنسية، إيرانيين وأفغان وباكستانيين ولبنانيين وعراقيين (لا نعرف، بعد، حجم هذا التجنيس)، وتوطينهم في مناطق أفرغت من سكانها، وعلى رغم تشكيل «حزب الله سوري» يقاتل في مختلف المناطق.. لكن الرهان الإيراني يتجاوز هذا الاستبدال الطائفي المباشر إلى التعويل على ما يفعله غيرها أيضاً. وهنا لا بد من الحديث عن عمليات تغيير ديموغرافي في الشمال بعيداً عن سيطرة النظام الكيماوي وحلفائه من قوات الأممية الشيعية.
فقد مارست «وحدات حماية الشعب» الكردية عمليات تهجير قسري لسكان قرى عربية في مناطق الجزيرة وتل أبيض وريف حلب الشمالي، ولم تسمح بعودتهم إلى بيوتهم بذرائع مختلفة. والآن تمارس تركيا والفصائل الإسلامية الملتحقة بها التهجير نفسه لسكان منطقة عفرين الذين تبدو فرص عودتهم إلى قراهم ضئيلة إلى الآن. فالمسؤولون الأتراك يتحدثون عن نسب المكونات العرقية في عفرين بصورة بعيدة عن الواقع، بما يقلل من نسبة الأكثرية الكردية الساحقة بالمقارنة مع العرب، ويضيفون التركمان غير الموجودين أصلاً في منطقة عفرين. وهذا مما يثير مخاوف جدية من النوايا التركية بشأن مصير عفرين وسكانها.
تتضافر عمليات التهجير المذكورة هذه مع التهجير الأول الذي يقوم به النظام والقوات الشيعية، لتنتج نوعاً من تطبيع التغيير الديموغرافي وإضفاء «مشروعية» متبادلة في نظر كل جماعة ومؤيديها، من جهة أولى، ولخلق توازنات ديموغرافية نسبية لمصلحة إيران.
وعلى أي حال لا تحتاج إيران لتحويل الشيعة في سوريا إلى أكثرية مستحيلة، بل يكفيها تحجيم الأكثرية العددية السنية مقابل مجموع الأقليات الدينية والمذهبية، إضافة إلى الكرد وأقليات عرقية أخرى، وهو هدف قد تحقق إلى حد كبير بالنظر إلى أن الغالبية الساحقة ممن فروا خارج البلاد هم من العرب السنة.
أضف إلى ذلك أن هناك نسبة كبيرة من السنة المتبقين الموالين للنظام ممن لا يشوشون التجانس السياسي، وهو التجانس الوحيد المطلوب من النظام على أي حال، بسبب استحالة إحداث تجانس طائفي في بلد متنوع كسوريا.
تهجير أهالي الغوطة الشرقية شكل نوعاً من الذروة في الخط الصاعد لسياسة التغيير الديموغرافي، بمشاركة نشطة من روسيا التي كان لقصف طائراتها دور رئيسي في كسر مقاومة الفصائل والأهالي معاً. وذلك بسبب عدم اكتراث الأمريكيين و«المجتمع الدولي» بهذه المنطقة الملاصقة للعاصمة. في حين تتغير حسابات الدول المنخرطة في الصراعات على الأرض السورية في مناطق أخرى. فمحافظة إدلب التي كثرت التكهنات بشأنها، بات لتركيا فيها نقاط مراقبة في إطار «منطقة خفض تصعيد» بما يعني أن لها كلمة في تحديد مصيرها. فإذا انفتحت الشهية الروسية، بعد اجتياح الغوطة الشرقية، على «انتصارات» إضافية، وبخاصة أن جبهة النصرة المجمع دولياً على تصنيفها في خانة المنظمات الإرهابية هي القوة الأكبر هناك، سيكون على موسكو إقناع أنقرة بإنهاء كل الفصائل المسلحة في إدلب، أو ينتهي «تحالف آستانة» إلى التفكك، في حال قدم الأمريكيون حوافز مرضية لتركيا على حساب «قوات الحماية» الكردية. وهذه احتمالات لا يمكن استبعادها بالنظر إلى اضطراب موازين القوى وأهواء الدول الفاعلة، وبصورة خاصة ما تشهده الإدارة الأمريكية من تغيرات كبيرة باتجاه تدعيم مواقع الصقور ضد إيران، وبالنظر إلى العزلة المتفاقمة التي باتت تحكم الطوق على روسيا بوتين بعد فضيحة مقتل العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته.
ويمكن الحديث عن المنطقة الجنوبية أيضاً التي يحميها من الأحلام الإيرانية ـ الأسدية بشأن التجانس، فيتو إسرائيلي ـ أمريكي ـ أردني لا تنقصه الأنياب.
٭ كاتب سوري
القدس العربي