حروب المشرق.. تقاسم الله ونزع قداسته/ مازن عزي
الإحالة إلى الفضائي-الروحي، لم تعد وسيلة للتواصل معه، بل توكيداً لتدخّله في الحرب
وكأن وجود الإنسان في المشرق العربي، بات مفتقراً للمعنى الشخصي، صائراً كارتباط عضوي بجماعات بشرية، ذات عمق تخيلي. فالهوية الشخصية، لم تعد تحيل إلى معنى كافٍ، يضمن قيمة الوجود والبقاء على قيد الحياة، بل ثمة نزوع إلى انتماء أكثري، يُهدئ مخاوف الذات، ويلحمها بكتلة مفترضة، تعطي للفرد إحساساً بالحماية.
انهيار منظومات الدول المشرقية، القائمة على الاستبداد والحكم الأقلوي لشعوب غير متجانسة، أحال إلى نوع من حرب الجميع ضد الجميع. ورغم التدخلات الإقليمية والدولية، تظل حرائق المشرق هي حروبنا على أرضنا؛ إذ أن طوائف المشرق وإثنياته، بعد سقوط طغيان الدول المركزية، ورعبها، وجدت نفسها وجهاً لوجه، مع الآخر-المختلف. باغت سقوط الدول المركزية الطوائف، بعدما عاشت زمناً طويلاً تطوّر سردياتها ومخاوفها عن الآخر. في الظّل، طيلة عهد دول الاستبداد، تمت رعاية عمليات تأثيم الآخر وشيطنته، وتعظيم الذات إلى حدود التماهي مع المقدس.
وللتشكل ضمن الجماعة، والتعرف بالذات من خلالها، إلغاء لحاجز الفردانية لصالح الجماعة من جهة، والمقدس في اعتقادها من جهة أخرى. الأمر يترافق مع تبخيس حاد لقيمة الذات، وإعلاء من شأن الجماعة، ومقدساتها. وكلما زادت قداسة الجماعة المستقاة من الله، قلّت قيمة الفرد، واضمحلت. ورغم التناسب العكسي الظاهر، ثمة تناقض داخلي مركب: كلما زادت قداسة الجماعة، بخست قيمة الفرد، وانحدرت قيمة القداسة المكرسة لأرباب الجماعات.
في المشرق العربي، كما في غيره، شُدّت المجموعات البشرية، إلى أوتار التخيّل الديني، واكتسبت جزءاً من هويتها الدلالية، من تأريخ وتوكيد أربابها. صناعة الكتل البشرية للمتخيل الرباني، سرعان ما انقلبت عكسياً، ليساهم الرب في تخييّل المجموعات، ورسم حدود فارقة بينها. فالهوية الدينية المتخيلة، كانت فعلاً جدلياً، بين الرب المخلوق، وخالقه الجمعي. وتأريخية تكوين الجماعات، تتلازم مع تأريخية صناعة أربابها. وانحدار الجماعات إلى البربرية، وابتعادها المضطرد عن الحضارة، هو انحدار لقضاياها المقدسة، وتراجع لقيمة أربابها.
كما أن الحروب المذهبية والدينية، في المشرق، لم تكن يوماً حدثاً استثنائياً؛ لا بل تكاد تكون القاعدة الأعم تاريخياً. في سياق تلك الحروب، تمت إعادة تخليق حدود الجماعات البشرية، والفروق بينها.
المشكلة الراهنة الآن، في أحد وجوهها، قد تكون في “أرضية” الأرباب ودنيويتهم، بعدما كانوا متعالين جبارين. فالله في بدء الدعوة الإسلامية كان عظيماً متعالياً موحداً للرايات، هادماً للأحزاب. واليوم، لله حزبٌ وجند وأنصار ومليشيات. وبعدما تعالى عن الصفات في الماضي، يتم راهناً تأريض المقدس (خَفضُه إلى الأرض)، بالترافق مع أنسنته. هذا تزامناً مع انكفاء التوحيد، إلى حالة تعدد وتشظٍّ. حتى الجماعات التي تعتنق مذهباً واحداً تتقاتل، فالسنّة مثلاً منقسمون بين جماعات باغية وخوارج.
الإحالة إلى المقدس، كانت ضرورة وجودية للجماعات؛ فيه تجد شرعيتها أمام أتباعها، وباسمه تقاتل الآخر-المختلف. لكن تأريض المقدس وأنسنته، على شكل ومثال أنصاره، تنحو نحو تقزيمه، وإعادة انتاجه كإله غاضب، لا رحمة لديه ولا غفران.
كيف لا؟ والجماعات المتقاتلة المختلفة تنعي قتلاها وضحاياها، كشهداء، وقتلى الآخرين ككلاب وفطائس وخنازير. بل إن الجماعات المتقاتلة، صارت مبدعة في تخليق ممارسات طوطمية، لدفن قتلاها، والتنكيل بجثث أعدائها. فأبو صقّار السوري، أكل قلب جندي علوي، الأمر الذي جعل من السنّة – بحسب أعدائهم الشيعة – آكلي قلوب ونابشي قبور. كما أن جثة القيادي البعثي طارق عزيز، التي اختطفتها مليشيا شيعيّة من مطار بغداد، كادت أن تتحول إلى قربان يُستخدم لتعجيل ظهور الإمام المهدي، لولا تدخل الحكومتين الأردنية والعراقية.
المسالك السحرية، التي تخوضها المذاهب والطوائف، استعداداً لحروب نهاية العالم، صارت علنية. فتنظيم “الدولة الإسلامية”، حفر الخنادق حول دابق بانتظار الروم، و”حزب الله” خرج إلى سوريا لمنع سبي زينب وانتظاراً لإشارات ظهور المهدي. وبينهما، هدمت “جبهة النصرة” مزارات الصوفيّة والدروز، وقتل جنود علويون قطيعاً من الحمير. التمثيل بالجثث، هو سمة القتال الراهنة، التي تشترك فيها الفصائل المتحاربة. في الأمر نزوع إلى حرمان الضحية من التعريف بذاتها وقت القيامة. إهانة جسد الميت، طقس مارسته غالبية الشعوب البدائية. ومعيار البدائية هنا، هو درجة الانتماء إلى الحضارة.
جميع المتقاتلين في المشرق اليوم، يعجّلون في تحقيق النبوءات، فيوغلون في الدم، والسحر. ولا يبدو غريباً في هذا السياق، أن يجلب مسيحيون لبنانيون تمثال “سيدة فاطيما” من إسبانيا، ليدخلوا به مبنى البرلمان، عسى العذراء تصنع معجزة، وتلهم النواب انتخاب رئيس للجمهورية.
الإحالة إلى الفضائي-الروحي، لم تعد وسيلة للتواصل معه، بل توكيداً لتدخّله في الحرب. ما يحدث الآن، قد يبدو استعادةً لملاحم الإغريق وأربابهم، في صراع مفتوح قد لا ينتهي، بعدما تحزّبت الآلهة وتنازعت إلى جانب البشر المتقاتلين. وفيما تخوض الآلهة صراع البشر، تنخفض قيمتها الروحية، رغم ما يقدم تحت أسمائها من قرابين.
بهذا المعنى، تبدو حروب اليوم، وكأنها تعيد العلاقة مع الإله إلى جذورها الطوطمية الأعمق، وتُخرج المشرق، من سياق الديانات التوحيدية الكبرى إلى مجموعات متناوشة براياتٍ متعددة. وحروب المشرق اليوم، لم تعد صراعاً على الأرض والثروة، بقدر ما هي صراع على تأريض المقدس.
قبل 14 قرناً دخل الرسول محمد، مكّة، وهدم الأصنام فيها، موحّداً الآلهة بالله. واليوم تبدو الغزوة مضادة، ردّية، لتشريك الله، وتقاسمه بين القبائل.
المدن