حرية الكتابة/ أورهان باموك
ترجمة : وائل عشري
في شهر مارس 1985، قام آرثر ميلر(1) وهارولد بنتر(2)، الكاتبان الأكثر شهرة وأهمية آنذاك في المسرح العالمي، بزيارة إلي مدينة استنبول. لكن المؤسف أن الهدف من تلك الزيارة لم يكن لحضور عرض مسرحي أو ندوة أدبية، بل كان تلك القيود الثقيلة التي فرضت علي حرية التعبير في تركيا، والزج بمئات الآلاف من الأتراك في السجون، في أعقاب الانقلاب الذي شهدته تركيا في خمسينيات القرن الماضي. وكما هي العادة دائمًا تصدر العديد من الكتاب التعساء قائمة الأكثر عرضة للاضطهاد شديد الوطأة.
وفي كل مرة كنت أعود فيها إلي أرشيف الصحف و«روزنامات» ذلك الوقت، كي أذكر نفسي بما كانت عليه الحال في تلك الأيام، كانت ترتسم أمامي صورة تقدم تجسيدًا دقيقًا لتلك الحقبة ومعظم من عاصروها: الجندرما «عساكر» تحيط برجال رءوسهم محلوقة ويجلسون بوجوه عابسة تزداد عبوسًا كلما طال نظر القضية داخل غرفة المحكمة. وبين الرجال كان هناك العديد من الكتاب. وقد جاء ميلر وبنتر إلي استنبول لمساندتهم والالتقاء بهم وبعائلاتهم ولفت أنظار العالم إلي الوقت العصيب الذي يعيشونه. وكانت «الجمعية الدولية للشعراء وكتاب المسرح والمحررين وكتاب المقالة والروائيين» PEN(3) هي التي نظمت تلك الزيارة باتفاق مع Helsinki Watch Committe «لجنة هلسنكي المعنية بحقوق الإنسان. ويوم وصول ميلر وبنتر توجهت، وأحد الأصدقاء إلي المطار لاستقبالهما، وكنا قد كلفنا بمرافقتهما.
كنت قد تقدمت إلي هذه الوظيفة ليس بشغف السياسة بل لأنني روائي يجيد الإنجليزية بطلاقة. وقد سعدت بالوظيفة ليس لأنها وسيلة لمساعدة أصدقاء كتاب في محنة، بل لكي أكون، ولو لبضعة أيام، في صحبة اثنين من كبار كتاب العالم.
وبصحبة ميلر وبنتر زرنا دور نشر صغيرة تجاهد من أجل الاستمرار، صالات تحرير وبث أخبار تعيش الأزمة، ومقار مجلات صغيرة مظلمة علي حافة الإغلاق. تنقلنا من منزل إلي منزل، ومن مطعم إلي مطعم، للقاء كتاب في ورطة هم وعائلاتهم.
كنت، وإلي تلك الفترة، أقف علي هامش السياسة ولا أخطو إلي داخلها إلا مجبرًا. لكنني، وبينما كنت أستمع إلي حكايات خانقة عن الكبت، القسوة، والشر المطلق، شعرت بانجذاب مشوب بالذنب إلي هذا العالم، وأنني مشدود إليه، أيضًا بمشاعر التضامن وإن كنت قد شعرت، في الوقت نفسه، برغبة مساوية ومناقضة، تدفعني إلي أن أنأي بنفسي بعيدًا عن هذا كله وألا أفعل شيئًا في حياتي سوي تأليف الروايات الجميلة.
ونحن نتنقل داخل سيارة أجرة من موعد إلي موعد، وسط زحام المرور في استنبول، أتذكر أننا تبادلنا الأحاديث حول الباعة والعربات التي تجرها الخيول وأفيشات الأفلام السينمائية والنساء السافرات منهن والمتشحات اللاتي يثرن دائمًا اهتمام الزائر الغربي. أتذكر أيضًا، وبشكل أكثر وضوحًا صورة: أنا وصديقي المرافق نقف عند نهاية ممر طويل في «هيلتون» استنبول نتبادل همسًا مضطربًا إلي حد ما، بينما ميلر وصديقه بنتر يجلسان يتهامسان بحدة غامضة مماثلة. لقد بقيت هذه الصورة محفورة في الذاكرة المضطربة ربما لأنها ترسم في اعتقادي، تلك المسافة الشاسعة ما بين تاريخنا المعقد وتاريخهم، وتوحي في الوقت نفسه بأن التضامن العزائي بين الكتاب كان ممكنًا.
في كل اجتماع آخر مع كتاب داخل غرف معبأة بالدخان، كنت أشعر بالكبرياء المتبادل والعار المشترك. لقد أدركت ذلك وكان التعبير عنه علانية أحيانًا، وألمسه بنفسي في أحيان أخري أو أراه في تلميحات وتعبيرات الآخرين. كان معظم الكتاب، المفكرين، والصحفيين، الذين التقينا بهم، غالبًا ما يعرفون أنفسهم، في تلك الأيام، بأنهم من اليسار. لهذا يمكن القول بأن مشاكلهم كانت ذات علاقة بالحريات التي يحظي بها الديمقراطيون في الغرب الحر. بعد ذلك، وبعشرين عامًا أري ما يقارب نصف هؤلاء يقف في صف واحد مع أصحاب الاتجاهات القومية المتنازعة مع اتجاهات غربية وديمقراطية. ومن المؤكد أن هذا الأمر يشعرني بالحزن.
لقد تعلمت من تجاربي، كدليل، والتجارب المشابهة لآخرين، شيئًا نعرفه جميعًا وأرغب في انتهاز الفرصة للتأكيد عليه الآن: إن حرية التفكير وحرية التعبير هما من الحقوق الأساسية العالمية للإنسان دون النظر إلي طبيعة الدولة. وهذه الحريات التي يشتهيها الإنسان المعاصر، كما يشتهي الخبز والماء، لا يجب تقييدها باستخدام عاطفة قومية أو حساسيات أخلاقية، أو مصالح تجارية أو عسكرية. والأخيرة هي الأسوأ علي الإطلاق. وعندما يعاني العديد من الدول خارج العالم الغربي، وبخجل، من الفقر، لا يكون ذلك بسبب أنها تملك حرية التعبير، بل بسبب أنها لا تملك هذه الحرية. وبالنسبة لهؤلاء الذين يهاجرون من دولهم الفقيرة إلي دول الغرب والشمال، هربًا من صعوبات اقتصادية واضطهاد وحشي، يجدون أنفسهم، وكما نعرف، تحت وطأة وحشية أشد، بسبب عنصرية يتعرضون لها في دول غنية. نعم، يجب أن نتنبه أيضًا إلي هؤلاء الذين يشوهون سمعة المهاجرين والأقليات بسبب معتقداتهم الدينية أو أصولهم العرقية، أو بسبب آثار البطش التي تتركها ممارسات حكومات الدول التي جاءوا منها، علي مواطنيها. لكن احترام إنسانية ومعتقدات الأقليات لا يعني أننا يجب علينا تقييد حرية التفكير. واحترام حقوق ومعتقدات الأقليات العرقية لا يجب أن يكون ذريعة لانتهاك حرية القول. وعلينا، نحن الكتاب، ألا نتردد إزاء هذا الأمر مهما كانت تلك الذريعة مستفزة. إن لدي البعض منا تفهمًا أفضل للغرب. وبعضنا ينجذب أكثر إلي هؤلاء الذين يعيشون في الشرق، والبعض، وأنا منهم، يحاول أن ينفتح علي جانبي هذا التقسيم المصطنع إلي حد ما. لكن ارتباطاتنا الطبيعية ورغبتنا في فهم هؤلاء الذين يختلفون عنا، يجب ألا تقف في طريق احترامنا لحقوق الإنسان.
دائمًا ما أجد صعوبة في التعبير عن مواقفي السياسية بشكل واضح، حاسم، وقوي، إذ أشعر وكأنني مدع يقول أشياء ليست صادقة تمامًا. سبب ذلك هو علمي بعدم استطاعتي تكثيف ودمج أفكاري حول الحياة في نغمة موسيقية مفردة أو وجهة نظر وحيدة. أنا روائي في نهاية الأمر، وصنف من الروائيين الذين يجعلون عملهم هو التطابق والتماثل مع كل شخصيات رواياتهم، وخاصة الشخصيات الشريرة. والعيش، كما أعيش أنا، في عالم يستطيع فيه شخص ما، أن يتحول، وخلال فترة قصيرة، من ضحية استبداد إلي مستبد، علمني أيضًا أن الإصرار علي التمسك بمعتقدات حول طبيعة الأشياء هو في حد ذاته عمل صعب. إنني أؤمن أيضًا أن معظمنا تؤانسه، وفي وقت واحد، تلك الأفكار المتناقضة داخل روح الإرادة الطيبة والنوايا الحسنة. إن متعة كتابة الروايات تكمن في الكشف عن هذه الحالة العصرية المميزة، حيث يتناقض الناس، بشكل مستمر، مع ما في عقولهم. إن عقولنا المعاصرة غامضة إلي درجة تجعل لحرية التعبير أهمية قصوي: نحتاج «هذه الحرية» لكي نفهم أنفسنا، ونفهم أفكارنا الغامضة المتناقضة، ونحتاجها بسبب الكبرياء والعار اللذين سبق وأشرت إليهما.
دعوني أحكي لكم حكاية أخري قد تلقي بعض الضوء علي العار والكبرياء اللذين شعرت بهما قبل 20 عامًا مضت، وأنا أصطحب ميلر وبنتر في جولات حول مدينة استنبول. ففي السنوات العشر التي تلت تلك الزيارة وقعت سلسلة من مصادفات ناجمة عن نوايا حسنة، مشاعر غضب، إحساس بالذنب، وتباينات شخصية، قادتني إلي حرية التعبير، منبتة الصلة برواياتي، وقبل وقت طويل من تجسيدي لشخصية سياسية كانت أشد بأسًا إلي درجة لم أخطط لها. في ذلك الوقت كان مؤلف هندي كبير السن، أعد تقرير الأمم المتحدة حول حرية التعبير في ذلك الجزء من العالم الذي أعيش فيه، قد جاء إلي استنبول وراح يبحث عني. والذي حدث أننا التقينا في فندق هيلتون، أيضًا، وفور جلوسنا إلي المائدة بادر السيد الهندي بتوجيه سؤال لا يزال صداه يتردد بشكل غريب داخل عقلي. سألني: ما الذي يجري في بلدك وترغب في سبر أغواره في رواياتك لكنك لا تحاول الاقتراب منه بسبب محظورات شرعية؟
بعد السؤال مرت فترة صمت طالت ووجدت نفسي في خضم تفكير عميق. غرقت في تساؤل ديستو فيسكي(4) ذاتي موجع. وكان واضحًا أن السيد القادم من الأمم المتحدة يسألني عن المسكوت عنه في بلدي، نتيجة للمحرمات والمحظورات الشرعية، والسياسات القامعة. لكنه صاغ السؤال في إطار ما أكتبه من روايات لأنه مهذب. أما أنا، وفي ضوء تجربتي، فقد أخذت السؤال في إطار معناه الحرفي. ففي تركيا، وخلال عشر سنوات مضت، كان هناك العديد من الموضوعات التي أغلقت القوانين وسياسات الدولة القمعية، أبواب الحوار حولها. لكنني، وباستعراض هذه الموضوعات، الواحد تلو الآخر، لم أجد موضوعًا واحدًا أرغب في سبر أغواره في رواياتي. رغم ذلك أدركت أنني سأقدم انطباعًا خاطئًا إذا ما قلت أنه لا يوجد ما أرغب في الكتابة عنه، في رواياتي، ولا أستطيع مناقشته لأنني كنت قد بدأت بالفعل تناول كل تلك الموضوعات بشكل علني ولكني خارج رواياتي. الأكثر من ذلك أن مجرد التفكير في طرح تلك الموضوعات في رواياتي لمجرد أنها موضوعات محظورة، كان يصيبني بالغضب. وبينما كانت كل تلك الأفكار تعبر خاطري، شعرت فجأة بخجل من صمتي الذي طال واستقر في يقيني أن حرية التعبير لها جذورها المرتبطة بالكبرياء، وهي في جوهرها تعبير عن الكرامة الإنسانية. لقد عرفت علي المستوي الشخصي ، كتابًا اختاروا طرح قضايا محظورة لمجرد أنها محظورة. أظن أنني غير مختلف. لأنه، وعندما يوجد كاتب آخر، في دار آخر، ليس حرًا، فهذا معناه عدم وجود كاتب حر. هذه حقًا هي الروح التي تشكل التضامن الذي تشعر به «الجمعية الدولية للشعراء PEN، ويشعر به الكتاب في أنحاء العالم كله.
أحيانًا ما يخبرني أصدقائي بأني ما كان يجب علي صياغة أمر ما بالشكل الذي صغته به و«لو أنك صغته، هكذا، وبأسلوب لا يضير أحدًا لما كنت في مثل ما أنت فيه من ورطة». لكنك إذا ما غيرت في كلمات المرء وغلفتها بأسلوب يحظي بالقبول، من الجميع، داخل ثقافة مقموعة، وتصبح ماهرًا في هذا الميدان، فإن ذلك يشبه إلي حد ما تهريب بضائع ممنوعة عبر الجمارك. وهذا فعل مشين ومُحقر.
إن الفكرة الرئيسية لمهرجان هذا العام «للجمعية الدولية للشعراء PEN»، هي العقل والعقيدة. ولقد سردت كل تلك الحكايات بهدف تجسيد حقيقة واحدة هي أن بهجة التعبير الحر عما نشاء قوله ترتبط بالكرامة الإنسانية رابطة لا انفصام لها. لذا دعونا نسأل أنفسنا الآن عن مدي معقولية تشويه الثقافات والديانات، بل وقصف دولة بالقنابل، وبلا رحمة، تحت اسم الديمقراطية وحرية التعبير. إن الجزء الذي أعيش فيه، في هذا العالم، لم يعد أكثر ديمقراطية بعد سقوط كل هؤلاء القتلي. إن اضطهاد وقتل آلاف الناس بلا رحمة في الحرب علي العراق، لم يحقق سلامًا ولا ديمقراطية. لقد أصبحت الأوضاع أكثر صعوبة بالنسبة لأقلية صغيرة تقاوم من أجل الديمقراطية والعلمانية في الشرق الأوسط. وهذه الحرب الوحشية القاسية هي عار أمريكا والغرب. أما المنظمات مثل PEN، والكتاب مثل هارولد
بنتر وآرثر ميلر، فهم الكبرياء.
هوامش للمترجم
(1) Arther Miller (1915 2005) كاتب مسرحي أمريكي له العديد من الأعمال ذائعة الصيت، من بينها «كل أبنائي»، و«موت بائع متجول» التي فازت بجائزة بوليتزر للأدب.
(2) Harold Penter شاعر وكاتب وممثل بريطاني فاز بجائزة نوبل للآداب لعام 2005.
(3) International Association for Poets, Playwriters, Editors, and Novelists
(4) نسبة إلي Fyodor Dostoevsky (1881 – 1821) الأديب والروائي الروسي العالمي الذي من أشهر أعماله: الجريمة والعقاب، الإخوة كرامازوف، والسكير