حريق العصرونية ودمشق”الفاطمية”/ إياد الجعفري
يُجمع معظم المراقبين أن الحريق الضخم، الذي شبّ فجر السبت، في واحد من أبرز أسواق دمشق القديمة، “العصرونية”، يرتبط بنوايا إيران لتغيير الطبيعة الديمغرافية لدمشق، وإحكام السيطرة عليها، ليس فقط بالقوة الأمنية والعسكرية المُتمثلة بسيطرة نظام الأسد، المسنود إيرانياً، بل أيضاً بالقوة الناعمة، الاقتصاد والديمغرافيا.
لكن تغيير الحقائق التاريخية لمدينة كـ دمشق، ربما يكون عصيباً على من لم يقرأ التاريخ جيداً. فدمشق التي لطالما عُرف أهلها بالمرونة والبراغماتية والقدرة على التكيّف مع أحلك الظروف للبقاء والاستمرار، لم تكن شرسة في تاريخها، إلا حينما حاول أحد المستعمرين تغيير وجهها العقائدي.
وبخلاف مدن شامية عدة، لم يشهد التاريخ أن دمشق تشيّعت في غالبيتها، إذ أبقى سكان هذه المدينة، المتغيرين على مدى قرون التاريخ الإسلامي، على ولائهم المُطلق للمذهب السُني. فكانوا يقبلون بكل من يحقق لهم معادلة من ثلاثة أطراف، حفظ مصالحهم، وتقدير معتقداتهم، واحترام مدينتهم ووجهائها.
وفي التاريخ، لم يُراعِ مستعمر قادم لدمشق هذه المعادلة. وباستثناءات قليلة، كانت دمشق شرسة للغاية في المواجهة، على خلاف ميل أهلها للمهادنة وتسوية الصراع بالاتفاق، على الحد الأدنى المقبول لديهم.
حُكمت دمشق لمرة واحدة فقط في تاريخها الإسلامي، من قوى غير سُنية، في العهد الفاطمي، حوالي 100 سنة، كانت حافلة بالاضطراب والفوضى، خرج خلالها أهالي دمشق على الوالي الفاطمي أكثر من خمس مرات، كُبرى، سجّلها كبار المُؤرخين باسم “ثورات الأحداث” في دمشق.
وبقدر ما كان الفاطمي شرساً و”بربرياً” في التعامل مع دمشق وأهلها، ومعتقداتهم، بقدر ما كان سكانها شرسين في المواجهة، ومتمردين، كلما استشعروا لحظة ضعف لدى حاكمهم الفاطمي.
المدّ الشيعي الذي عرفته بلاد الشام خلال نهاية الألفية الميلادية الأولى، غصّ كثيراً بدمشق. ورغم الدعوات على منابر المساجد للشيعة الاسماعيلية، ونشاط الحركات التبشيرية بدمشق وحواكيرها، بقي سكان دمشق مناوئين في غالبيتهم للمذهب الشيعي، بإقرار كل المؤرخين العرب.
وبخلاف حلب التي كانت قد تشيّعت حتى قبل وصول الفاطميين، على يدّ أبنائها من الحمدانيين، بقيت دمشق سُنية الديمغرافيا، تقاوم بشراسة، وتتلقى قسوة مُفرطة من ولاتها الفاطميين الحانقين جراء تمردها المُستمر.
قبل دخول الفاطميين دمشق، تعوّد سكان المدينة على المهادنة بعد قرون من القسوة والاضطهاد، التي مُورست حيال المدينة وسكانها من جانب العباسيين، بتهمة “هواها الأموي” الذي جعلها عاصمة للأمويين لتسعين سنة.
وتعوّد وجهاء المدينة على عقد المصالحات والتسويات، لكنهم في الوقت نفسه تعودوا على نيل الاحترام من الحكام المتجددين للمدينة، وتعودوا على سعي هؤلاء الحكام لكسب ودّهم، لضمان استقرار المدينة تحت سيطرتهم.
كما لم تواجه المدينة في تاريخها، قبل دخول الفاطميين إليها، أي حكم غير سُني. لكن في نهاية الألفية الميلادية الأولى، كان لدمشق موقع أثير في نفوس الفاطميين، الذي كانوا يطمعون للنيل من الشام بأسرها، وقلبها النابض بدمشق.
بعد قرابة الـ 100 سنة، من الاضطراب والفوضى والثورات والتمردات، لم تسكن دمشق للحكم الفاطمي، ولم تهضم مساعيه لتشييع سكانها، فكان أن خرج الفاطميون بسرعة أمام أول قوة قاربت العاصمة، متمثلةً بالسلاجقة الأتراك، الذين سيطروا على دمشق سنة 1075 ميلادية. وتدريجياً، تمكنوا من إنهاء سلطان الفاطميين في كامل بلاد الشام، بعد قرن ونيف فقط، شهد مدّاً شيعياً، يمثّل انقطاعاً طفيفاً في تاريخ بلاد الشام، الإسلامي، الذي غلب عليه الطابع السُني.
بالعودة إلى التاريخ الراهن، قبل أسابيع قِيل أن تظاهرة شهدتها أسواق دمشق بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار، وتدهور الأوضاع المعيشية. واختلفت المصادر الميدانية في توصيف ما حدث، أهو مجرد إضراب احتجاجي من التجار، أم مظاهرة ساخطة. لكن كل المصادر أجمعت على أن السخط وصل مراحل متقدمة لدى سكان العاصمة.
حريق “العصرونية”، اليوم، يعني الكثير.. فبعيداً عن الرواية الرسمية عن “ماس كهربائي” في بلد بات يشتهي الكهرباء، يبدو أننا أمام مسعى “استعماري” جديد، بكل ما تعنيه الكلمة. مسعى لا يكتفي بدعم طرف من السوريين، على حساب البقية، بل يتجاوزه إلى مرحلة تغيير التركيبة الديمغرافية والاقتصادية في عاصمة السوريين، على أمل خلق واقع جديد، يُفرض أمام الفرقاء لحظة تقسيم الكعكة بين اللاعبين الإقليميين. علّ دمشق، حسب المشروع الإيراني، تصبح “شيعية” الهوى.
لكن، هل دروس التاريخ غير كافية للتأكيد بأن سكان دمشق يقبلون المهادنة بشروط، ثلاثة، يترنح منها اثنان حتى الآن، مصالحهم (بما فيها معيشتهم)، ومعتقداتهم (بما فيها مساعي تهجيرهم وتغيير التركيبة الديمغرافية لمدينتهم)؟!
لا نستطيع الجزم بأن دمشق اقتربت من لحظة استثنائية في تاريخها، تصبح فيها شرسة، على غير العادة. لكن الأرجح أن مساعي التغيير الديمغرافي، المترافقة مع تدهور معيشي، وتهجير مقصود، ستسرّع من لحظة الانفجار في مدينة تقف على خطوط تماس ملتهبة مع معارضة مسلحة تنتظر الفرصة السانحة لدخولها، من بوابتها الشرقية تحديداً.
المدن