رشا عمرانصفحات الناس

حرّاس القضية/ رشا عمران

 

 

كان اليسار العربي، في نهاية السبعينيات، متوهجاً. كانت القضية الفلسطينية والمقاومة الوطنية، وحركة التحرر العربي، والأممية، ومعاداة الرأسمالية العالمية، مصطلحات حاضرة، مثل حضور الاتحاد السوفييتي، رمز اليسار والتقدم. في الجلسات والسهرات والنقاشات، كان الجميع يرتدون المعطف الخاكي أو ما كان يسمى (الفيلد) والحذاء العسكري، تيمناً بتشي غيفارا، الرمز النضالي اليساري الأممي، حلم كل البنات اليساريات، و”الستايل” الذي كان يقلده الشباب ذلك الوقت.

جزء كبير من الحالة كلها كان متعلقا بالستايل، أو بما هي الموضة والدارج، وكان الدارج اليسار. لهذا، انتمى له كثر وتمسح به أكثر، مثلما يحدث اليوم مع الحركات الإسلامية الجهادية. في الحالتين، ثمّة أسباب موضوعية لظهورهما، وفيهما، أيضاً، ستايل ينتشر ويتمدد ويرغب كثيرون في تقليده والتمسح به والتباهي بالانتساب له. كان للستايل اليساري، وقتها، إكسسورات يجب أن تتوفر ليستحق صاحبها شرف الانتماء.

أذكر، وكنت في أوج مراهقتي، أنا ابنة البيت الثقافي، أنني كنت أرفض قراءة شعر والدي وأصدقائه، فبالنسبة لي ولكثيرين، ليس شاعراً كل من لا يشبه ناظم حكمت ولوركا ومايكوفسكي، ولاحقاً محمود درويش. كل من لا يكتب شعراً مغنى على طريقة أحمد فؤاد نجم منفصل طبقياً، وخائن للقضية، أما من لا يحب الشيخ إمام الذي كانت كاسيتاته تهرّب وتسمع سراً، فهو منبوذ وخارج الجماعة. كان على الجميع، أيضاً، الإقرار بأن فيروز والرحابنة وحدهم يمثلون الفن العظيم الذي يغيّر التاريخ، ويعبر عن قضايا الجماهير، أما أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم فهم مطربو النخبة الذين يكرسون التخلف والطبقية والتغييب، ومن يتجرأ على الجهر بالإعجاب بهم فهو انتحاري، يعرّض نفسه لشتائم واتهامات. أذكر أنني تجرأت، وسألت أحدهم: لماذا لا يجوز أن أسمع أم كلثوم؟ قال: عليك أن تسمعي ما تسمعه الجماهير الكادحة والطبقات المسحوقة، هذه بداية الانتماء للطبقات الشعبية! كنت أدهش، لاحقاً، حين أنتبه إلى أن طبقات الشعب الكادحة كانت تسمع أم كلثوم وعبد الحليم. سائقو الحافلات وبائعو الخضار والسمانة، وبائعو غزل البنات والصبّار، فلاحو قريتنا وعمالها، كانوا يسمعون أم كلثوم، ويحفظون أغنياتها. واكتشفت، يوماً، أن كثيرين من أصدقائي كانوا يحفظون أغنياتها سراً، ويغنونها سراً أيضاً، بعيدا عن أعين حراس القضية.

وكانت المفاخرة باقتناء أكبر عدد من كتب دار التقدم، المختصة بنشر الأدب السوفييتي، وتعداد أسماء الروايات السوفييتية وكتّابها. أحضر لي أحدهم يومها رواية (كيف سقينا الفولاذ) بعد استهجان فظيع وشتائم طويلة، حين علم بعدم وجودها في مكتبة أبي، مع أنني وقتها كنت أقرأ من مكتبة أبي أجمل الكتب، وأكثرها تأثيراً في وجدان مراهقة مثلي. أذكر أنني وافقته على شتائمه، إذ علي أن أكون مع الشعوب الكادحة في مسيرتها النضالية، لا مع النخبة المنفصلة عن الجماهير والمتعاليه عليه.

اعترفت، يوماً، أمام مجموعة من الرفاق بأنني شاهدت فيلم (خلي بالك من زوزو)، وأن سعاد حسني خطفت عقلي بجمالها. قاطعوني على هذه الخيانة، وفصلوني من سياقهم اليومي، أفهموني أن هذا الفيلم بداية ترويج النزعة الاستهلاكية التي هدفها تدمير الوعي الطبقي، والتخلي عن الصراع الذي يجب أن يظل محتدماً لتتحقق الاشتراكية، ولتسود في العالم. لاحقاً، عاد معظم حراس القضية ممن كانوا يصدرون الأحكام علينا إلى طوائفهم ومصالحهم. أتذكّر ذلك التاريخ، وأنا أرى المحاكم السورية المنعقدة اليوم باسم الثورة والشعب الثائر، في كل شيء، في الأدب والفن والكتابة والحياة والشكل واللباس والتفكير والرأي، الموضة والموجة نفسها بكل إكسسواراتها. لكن، بعنوان جديد. الغريب أن بعض حراس القضية الماضية هم حراس قضية اليوم، بكل التناقض بين القضيتين، وأكاد أجزم أن عادتهم في الانقلاب ستكون نفسها، لو تغيّر الستايل الحالي.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى