«حزب الله»: اندماج المخفر الإيراني في الحوزة الشيعية/ صبحي حديدي
لكي يبدأ المرء من معطيات بسيطة حول حقيقة تحوّل «حزب الله» اللبناني إلى دولة داخل الدولة، يكفي التذكير بأنّ الحزب هو ثاني مُشغِّل/ مانح للرواتب في مختلف الوظائف، بعد الجيش اللبناني العتيد؛ كما أنه يأتي في الترتيب الأول للجهات التي تتولى تقديم مختلف أنماط المعونات الاجتماعية. صحيح، قد يقول قائل، إنّ هذين الامتيازين يقتصران ديمغرافياً على أبناء الشيعة في الأغلبية الساحقة، وفي مناطقهم الفقيرة حيث مستوى المعيشة المتدني غالباً؛ إلا أنّ هذا التفصيل يشكل، في ذاته، رافعة كبرى لتثبيت صعود الحزب إلى مصافّ الدولة، التي لا ينقصها جيش ضارب عالي التسليح، وحكومة فعلية، وخزينة لا تنضب، وعَلَم، و… مرجعية عليا قوامها الوليّ الفقيه!
ولقد مضى زمن شهد «تواضع» قيادة الحزب، والقصد هنا مرحلة ارتقاء حسن نصر الله سدّة القيادة، من حيث مغازلة الدولة اللبنانية والاعتراف بسلطتها وسلطاتها ومرجعياتها؛ بل إطراء الجيش اللبناني على وجه التحديد، وتنزيهه عن الصراعات والاختلافات، بوصفه مؤسسة تحظى بالإجماع الوطني. ذلك لأنّ هذا الخيار، اللفظي أوّلاً وأخيراً، والذي لم تكن مضامين النفاق فيه خافية إلا على الحمقى؛ لم يكن يكلّف الحزب البتة، لا في كثير ولا في قليل، وكان في المقابل يُكسبه ــ لدى شرائح أخرى من الحمقى ــ صورة الحزب المنضوي تحت الراية اللبنانية الوطنية، وتحت الدستور والرئاسات الثلاث. كان الحزب يعلم، ويُعلِم الجميع كلما اقتضت الحاجة، أنه دولة فوق الدولة وليس ضمن الدولة فقط، وأنه جيش أقوى عدّة وعدداً من الجيش اللبناني، وأنّ خزينته أغنى ويمكن لها أن تطفح في كلّ حين بمليارات «المال الطاهر». إنه، باختصار بليغ، مخفر أمامي للوالي الفقيه في طهران، والنقطة بعد هذا السطر تجبّ كلّ سؤال وتساؤل.
فهل صار حوزة شيعية أيضاً، بمعنى التجنيد العسكري والعقائدي للطائفة الشيعية في لبنان، ثمّ ما أمكن ذلك في الإطار المشرقي، ونحو سوريا أيضاً؟ نعم، وتدريجياً في واقع الأمر، رغم أسباب جوهرية ثلاثة، بين أخرى أقلّ مغزى ربما، كانت تحول دون ذلك التحوّل:
1 ـ أنّ حافظ الأسد، الذي ساهم في وضع التصاميم الأولى لصيغة الحزب، بالتوافق مع الإمام الخميني مباشرة كما تشير مصادر عديدة، سعى جاهداً لإبعاد التبشير الشيعي عن صفوف الطائفة العلوية؛ لأنّ أيّ تشيّع (من الطراز الذي تطوّر بعد الثورة الإسلامية في إيران) كان يهدد سيطرة النظام على مفاصل أساسية في قلب الطائفة العلوية، ويقترح بديلاً عن التوازنات العشائرية وشبكات الولاء الوظيفية التي شيّدها الأسد في قرى جبال الساحل السوري تحديداً.
2 ـ وأنّ التشيّع اللبناني، ثمّ في إطار أوسع: التشيّع العربي خارج مرجعيات قُم، لم يكن متجانساً على مستويات ديمغرافية وفقهية وتاريخية، ولم يكن واقعياً استطراداً ــ ولا مستحباً أصلاً ــ فرض شرائع ولاية الفقيه على الفقه النصيري في سوريا، والجعفري في لبنان، والزيدي في اليمن، كأمثلة؛ بصرف النظر عن نقاط الاختلاف والتشابه بينها وبين مرجعية قم.
3 ـ أنّ جمهور الشيعة في لبنان، مثله مثل أي جمهور ديني أو مذهبي أو طائفي، كان شرائح في مجتمع أوّلاً، وكان طبقات وفئات تتحكم في سلوكها عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية متباينة، ومتناحرة استطراداً؛ فلم يخلُ جمهور الشيعة اللبناني من معارضات مختلفة، علمانية وتقدمية رافضة للانتماء المذهبي؛ وأخرى إقطاعية وإقليمية تنضوي تحت ولاءات أخرى أبعد من حسّ التشيّع المحض.
وفي صيف 2013، للمرة الأولى منذ انتخابه أميناً عاماً للحزب، صارح حسن نصر الله جماهير الحزب هكذا: «نريد أن نقول لكلّ عدو ولكلّ صديق، نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم»، وأيضاً: «نحن حزب الله. الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري». كانت عوامل كثيرة قد دفعت نصر الله إلى هذا المستوى من الوضوح، أبرزها أنّ الحزب كان قد أعلن رسمياً انخراطه في القتال إلى جانب النظام السوري، وانفكاكه بالتالي عن ركيزة وجوده الكبرى والتأسيسية، أي «المقاومة» ضدّ إسرائيل. العامل الثاني نجم عن الأوّل بالضرورة، وهو التآكل المضطرد لجماهيرية الحزب في أوساط جماهير السنّة على امتداد العالم العربي والمسلم؛ الأمر الذي دفع نصر الله إلى التمترس المذهبي أكثر من ذي قبل، وإلى كشف طوية حرص عقوداً على تعميتها تحت ستار تمثيل جبهة المقاومة. قبل صيف 2013 هذا، في مطلع شبابه، وداخل اجتماع مغلق، سُجّل على شريط؛ كانت مصارحة نصر الله أكثر وضوحاً حول مشروع الحزب: «أن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان، ونائبه بالحقّ الوليّ الفقيه الإمام الخميني».
بذلك فإنّ صيغة «حزب الله» التكوينية خضعت لتجاذبات ثلاثة، ذات عناوين مكشوفة وأخرى مضمرة: جبهة مقاومة ضدّ إسرائيل (مخفر لبناني للولي الفقيه)، حاضنة اجتماعية للفئات الأفقر في صفوف شيعة لبنان (حوزة تبشير مذهبية، وحزب إسلامي شيعي إمامي إثنا عشري)؛ ودولة فوق الدولة (على الصعيد الرسمي، وقياساً على الحال الراهنة: وزيران في الحكومة، 14 نائباً، هيمنة على إدارات كبرى، بلديات ومناصب وفضائيات وصحف…). وتلك تجاذبات لم تبدّل خيار الحزب الجوهري في عدم إلزام المنتسبين إلى صفوفه بأية قواعد تنظيمية، لكنّ تقاليد العمل الداخلية كانت لها اليد العليا في تحويل الحزب إلى ميليشيا عسكرية تذهب بالمنتسبين إلى القتال مع نظام استبداد وجرائم حرب وفساد؛ تحت ذريعة (كاذبة) توفّرها الحوزة الدينية، أي الدفاع عن مراقد الشيعة في سوريا، ضدّ «التكفيريين».
لكن «غزوة بيروت»، في أيار (مايو) 2008، حين نزل الحزب بسلاحه الثقيل إلى قلب بيروت لترويض خصوم سياسيين، وأطلق نصر الله على تلك الواقعة صفة «اليوم المجيد»؛ نقلت حزب «المستضعفين» و«فقراء الكرنتينا» خطوة كبرى حاسمة بعيداً عن خطاب مغازلة المؤسسات الشرعية اللبنانية، فكشّر «حزب الله» عن أنياب لا تُخفي شراستها، بل تقصد إعلانها والتخويف بها. التطورات اللاحقة، بعد التعثر في انتخابات 2009 وعدم الوفاء بعهد الثأر لاغتيال عماد مغنية ومباركة قمع الإصلاحيين في إيران وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية والتخبط في أداء وزراء الحزب ضمن حكومة ميقاتي، كلها كانت مقدمات منطقية لكي يدير الحزب ظهره لإسرائيل، ويتفرغ لمقارعة أبناء الشعب السوري في أربع رياح سوريا.
.. ليس دون الاستدارة ضدّ بعض أبناء الطائفة الشيعية، ممّن اتخذوا موقف المعارضة لسياسات الحزب، أو لقتاله على جانب النظام السوري تحديداً. في الماضي أشارت أصابع الاتهام إلى خلايا الحزب في تصفية أمثال حسين مروة ومهدي عامل، واليوم لا يتردد الصحافي والمرشح النيابي علي الأمين في اتهام عشرات من أنصار الحزب اعتدوا عليه في وضح النهار. إعلام الحزب لا يتورع، من جانبه، عن اختراع فئة خاصة اسمها «شيعة السفارة»؛ أنت، كما يكتب علي الرز، عضو فيها حتماً، إذا كنتَ: «شيعياً لبنانياً ولم تسلّم عقلَك لآيات الله ووكلائهم المحليين»، أو «تتجنّب رفْع الأيادي تلقائياً والهتاف «لبّيك» من دون أن تفكّر لماذا رَفَعْتَ قبْضتكَ وهَتَفتَ»، أو «رافضاً للدم السوري على يديْك»، أو «رافضاً أن تصبح «برميلاً» محمَّلاً بالمتفجرات يلقيه الديكتاتور المدعوم من محور الممانعة على آلاف الأبرياء»، أو «رافضاً توزيع الحلويات والغناء والدبكة على أنغام السارين والكلور»؛ أو… أو… أو…
مخفر حوزة، وحوزة مخفر، إذن؛ ولا فارق، ولا افترق!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي