صفحات العالم

حزب الله” والمؤامرة

 

يوسف بزي

فيما كان النظام السوري يقيم جسراً جوياً وبرياً لألوف السلفيين الجهاديين، الآتين من كل بقاع العالم، ويستقبلهم بأفضل التسهيلات الممكنة، تمهيداً لتسللهم إلى داخل العراق، فيقيم لهم المعسكرات، ويزوّدهم بالأسلحة ويدربهم على صنع المتفجرات، ويخطط معهم على انتقاء الأهداف، وعلى اختيار الشخصيات التي يجب اغتيالها، وكذلك المباني التي يتوجب نسفها بمن فيها، والساحات المناسبة لتنفيذ أفظع المجازر.. كانت إيران، بدورها ترعى إنشاء الميليشيات الأصولية الشيعية وتمدها بالمال والسلاح وخبرات صناعة المتفجرات وتساعدها على تحديد الأهداف وتنفيذ عمليات القتل والمذابح، في مختلف المحافظات العراقية.

على هذا النحو اشتغل الحلف السوري الإيراني، بتنسيق كامل، على إدارة “المذبحة” العراقية بين “السلفية الجهادية” و”الأصولية الشيعية” التي ذهب ضحيتها مئات الألوف من العراقيين، تحت شعار “مقاومة الاحتلال الأميركي”، فيما كان حسن نصرالله يرطن بكلمة فارغة المعنى: إنه الموساد. كان يقول محدداً المسؤول عن فظائع العراق الدامية!

كان جمهور حزب الله في لبنان، يعرف أن “الشيعية السياسية” الوليدة في العراق، متحالفة مع أميركا من أجل “اجتثاث البعث”، وأن القتل العميم هناك ليس من صنيعة الموساد. مع ذلك، كان هذا الجمهور يحبّذ الأخذ بكلمة نصرالله. بل إن حزب الله نفسه كان يعرف تماماً أن “البعث” السوري هو المسؤول الأول عن نشر إرهاب تنظيم القاعدة الذي يذبح الشيعة العراقيين، وهو الذي يؤمن الملجأ والإمدادات لأتباع صدام حسين، الذين تفننوا بارتكاب الأهوال بحق سكان النجف والبصرة، وتسببوا بحمامات دم هي أشبه بـ”عاشوراء” يومية.

نفّذ الحلف السوري الإيراني مخططه الجهنمي في العراق، ما نتج عنه واحدة من أشنع الحروب الأهلية، وأشدها وحشية ودموية وعبثية.. وأحالت تلك البلاد حطاماً بمجتمع ليس له إلا الذاكرة الدموية والموت والخراب، فيما ظل حسن نصرالله يردد: “الموساد”، “الموساد”، بلا كلل.

منذ آذار 2011، تنقل عشرات الألوف من الكاميرات الفردية، والتلفزيونية، والصحافية، الوقائع الدامغة على انتفاضة الشعب السوري في كل حارات وشوارع وأزقة وساحات قرى ومدن سوريا، وتصوّر يوميات الثورة وتظاهراتها، كما تلتقط وتبث كل الأفعال الإجرامية والوحشية التي مارسها النظام “البعثي” (الممقوت شيعياً!) بحق الأطفال والنساء والرجال والشباب، وتوثق هذه الكاميرات عمليات القصف العشوائي المكثّف وغارات الطيران (بما فيها الغارة على بلدة إعزاز التي استهدفت قتل المخطوفين اللبنانيين الشيعة أولاً)، وآخرها الغارات المباغتة على مخيم اللاجئين الفلسطينيين في اليرموك التي تسببت بمجزرة بحق السكان المدنيين.. كذلك، فهذه الكاميرات بالإضافة إلى آلاف التقارير الصحافية، دوّنت وأظهرت أفظع عمليات التعذيب والاغتصاب والقتل والإعدامات الميدانية، في حرب شاملة يشنها جيش النظام و”شبيحته” على الشعب السوري (ويكفي أن نفكّر برهة أن للنظام “شبيحة”!؟).. ومع ذلك يقف حسن نصرالله ليرطن بكلمة فارغة المعنى: إنها مؤامرة إسرائيلية على نظام الممانعة (والمقاومة). ويتبعه في تردادها جمهوره اللبناني.

وإذا كانت السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير، بنظر حزب الله وجمهوره، متخاذلتين وعميلتين وانهزاميتين، فإن “حماس” و”الجهاد الإسلامي” كانتا حتى الأمس القريب، بلغة حزب الله وأنصاره، هما عنوان “المقاومة” و”الممانعة” وهما اللتان تعبران عن إرادة الشعب الفلسطيني.. لكن فجأة، وانسجاماً مع نظرية “المؤامرة الكونية”، باتتا اليوم خائنتين للوفاء وناكرتين للجميل.. فلم يبق من “فلسطين حزب الله”، ولم يبق فلسطينيون أصلاً ولم يبقَ من قدس وغزة إلا ضابط المخابرات السورية أحمد جبريل. وربما بات على حزب الله، والحال هذه، تحرير فلسطين من الفلسطينيين أنفسهم، كما بات على النظام السوري تحرير سوريا من السوريين. تماماً كما فعل الحلف الإيراني السوري، ولإفشال “المشروع الأميركي”، بأن نفّذ مؤامرة حقيقية حقاً حرر فيها العراق من مئات ألوف العراقيين قتلاً وذبحاً في أشد حقبات الرعب حلكة التي عرفها العالم.

وحال حزب الله في نظرته ورؤيته العراقية والفلسطينية والسورية هي عينها في نظرته اللبنانية، إذ أن “بطل” مجزرة صبرا وشاتيلا إيلي حبيقة، ما أن صار من أتباع النظام السوري، حتى بات اسمه “أبو علي” وسط جمهور حزب الله، الذي “يقدّس” القضية الفلسطينية!

هذا، وكان حزب الله قد أخذ على عاتقه بعد نيسان 2005، القيام بدور الوكيل عن الوصاية السورية التي اضطر جيشها ومخابراتها للانسحاب المهين من لبنان، إثر الانتفاضة الشعبية في شباط من ذلك العام، وهو من أجل توكيد تلك الوكالة واستئناف الوصاية بالواسطة، عمد إلى تجديد “الاستراتيجية” السورية في ربط النزاع الشرق الأوسطي، أي الإبقاء على جنوب لبنان (وأهله) “صندوق بريد” دموي، وساحة مفتوحة وسائبة للمعارك المحسوبة وللحروب الفالتة. هكذا قام في العام 2006، و”نكاية” بإرادة أغلبية اللبنانيين، وغصباً عن الدولة اللبنانية وسياستها، واستهتاراً بدماء الناس والمواطنين، وأهل الجنوب منهم خصوصاً، واستخفافاً بأي حساب أو كلفة، بافتعال حرب مع إسرائيل، أفضت إلى نتائج كارثية على لبنان.. لكنها، حسب نصرالله وجمهوره، هي “نصر إلهي”!

وترجم الحزب المذكور نصره الإلهي، انقلاباً سياسياً وعسكرياً على المجتمع اللبناني وعلى الدولة، مفككاً الحال “الاستقلالية” و”الوطنية” ومعيداً إنتاج المناخات الطائفية والمذهبية نابشاً المخاوف والضغائن والأحقاد، ليرتد اللبنانيون، إزاء الإعتصاب الشيعي المسلّح، إلى اعتصاباتهم السابقة على حالهم الوطنية الجنينية التي تخصّبت في ربيع العام 2005.

وإمعاناً في وفائه للملف السوري الإيراني، ذهب حزب حسن نصرالله، إلى استدعاء ما نبذه اللبنانيون منذ توقيع اتفاق الطائف عام 1989، أي اللجوء إلى السلاح الميليشيوي في النزاعات السياسية، فشنّ حربه الخاطفة من طرف واحد في أيار 2008، على العاصمة بيروت. ومرة أخرى كان حسن نصرالله يردد: إنها المؤامرة.

بموازاة كل هذا، وبالتزامن مع كل الأحداث الموصوفة، شهد لبنان منذ 14 شباط 2005، وما زال يشهد، مسلسلاً من الاغتيالات السياسية الكبرى، وتشير كل التحقيقات، وتوجه كل الاتهامات، وتدل جميع القرائن والإثباتات والدلائل على تورّط أجهزة حزب الله وعناصره والمخابرات السورية وأعوانها في تنفيذ تلك العمليات المروّعة، والتي تكاد تجهز على السياسة ورجالاتها في لبنان، وتسبب “الفتنة” والحرب الأهلية.. ومع ذلك يعلن نصرالله: إنه الموساد، إنه الموساد.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى