حزب الله» وطريق اللاعودة؟/ بشير هلال
خلال الأيام الماضية توسع تدخل «حزب الله» في سورية الى احياء جديدة من ضواحي دمشق، بتضادٍ مع إشاعاتٍ عن إمكانية انسحاب قواته ومع تسريبات تحدَّثت عن مفاوضات له مع فصائل عسكرية معارضة، وامكانية انسحابه من منطقة القلمون أو معظمها بضمانة الجيش اللبناني. وقيل إن الأخير نجح في عزل عرسال بأهلها ولاجئيها عن جرودها حيث يتمركز المسلحون. وأعطى نائب رئيس المجلس التنفيذي للحزب الشيخ نبيل قاووق إشارة النهاية لكل إمكانية تراجعٍ عن تورطه السوري بتأكيده أخيراً أنه «يوماً بعد يوم يتضح للجميع في لبنان وللعالم العربي والإسلامي والدولي عظيم الحاجة للبنان لبقاء حزب الله في سورية، لأن لبنان فرضت عليه معركة تكفيرية ودخل مرحلة جديدة. ما بعد عرسال ليس كما قبلها».
فكأنما لم تكن تلك التسريبات، ولو صحَّ وجودها في لحظةٍ ما، سوى محاولات لعقد صفقات موضعية تستكمل خط «المصالحات المحلية» بوصفها أداة فرعية في خيار الحرب الكلية للقضاء على المعارضة السورية ولـ «تهدئة» المزيد من المناطق والقوى على طريق «استعادة السلطة والحفاظ على النظام».
وعلى العكس فإن تصريح قاووق يشير إلى أن التدخل العسكري للحزب يغدو مهمته الرئيسة التي يجب إخضاع الجوانب الأخرى من سياسته لتسهيلها وتأمين شروط الاستمرار فيها: من جهة بسبب تهالك قوى النظام وتراجع جاهزيتها وعديدها وفعاليتها القتالية البحتة، خارج استخدام أدوات الدمار الجماعي، وثانياً لتعويض انسحاب الميليشيات العراقية لتغطية حاجات الاستراتيـــجية الإيرانـــية والتوتر المذهبي العراقي غداة التوسع الداعشي الكاسح، وثالثاً تحسباً لإمكان تحول الحــرب الغربية – العربية على الإرهاب من دون ايران، أداة إضعاف إضافية للنظام.
في المقابل، يتراكم جرَّاء إيغال الحزب في حربه السورية عددٌ من النتائج السلبية:
الأولى، إنه في معرض خفض المكوِّن اللبناني في قراره والتحول من حزب تأسَّس تأثيره وشعبيته المذهبية على قاعدة الدمج بين «المقاومة» والأممية الإسلامية الخمينية بمركزيتها الإيرانية والدفاع عن مصالح قسم من اللبنانيين بالذات في الصراع على السلطة وعلى تأويل تاريخ وموقع لبنان إلى جزء خالص من الجهاز العسكري والأمني الإيراني. فليس لحامله الاجتماعي أية مصلحة عامة مباشرة في الصراع السوري ولو ابتدع مصالح افتراضية دينية كالدفاع عن المراقد او سياسية كالحفاظ على المكانة و»المكتسبات» الشيعية في لبنان.
وبالعكس فإن خسائره اللبنانية تعرّض، في المحصلة، قوته البحتة وتأثير من يدَّعي تمثيلهم للخطر بفعل المسار الاستنزافي للحرب مع تبيُن أربع حقائق: استحالة انتصار النظام و/أو استحالة صموده بمفرده وخلقه لتوتر مذهبي لبناني عضوي وردود من طبيعة غير مسبوقة تؤدي إلى تغيير نِسب القوة العارية التي كانت اداة تغلُبه حتى اليوم.
الثانية، أن حربه السورية ونتائجها اللبنانية تسرِّع تحوله ككل تنظيمٍ عسكري- سياسي مقفل إلى مجرَّد جهاز يدافع عن مصالحه الخصوصية بأقانيمها الثلاثة: الخضوع للتراتبية والتبعية والفساد.
الثالثة، إن الحزب يضع نفسه ولبنان أمام خيارات مستحيلة ليس مأزق التفريغ الدستوري والمؤسسي المتصاعد إلا إحدى نتائجها الطبيعية. فهو لم ينهزم تماماً بعد، لكنه يستحيل أن يخرج منتصراً من هذه الحرب وتفرعاتها اللبنانية فيما يستمر على تصرف أو إيحاء معين. وهذا ما يبدو في انتخابات الرئاسة وفي غيرها، كما لو كان لا يزال على نفس قوته عند بدء الحدث السوري، وكما لو أنه لا يزال يمكنه الحفاظ على تفوقه «اللبناني» ومتابعة حربه السورية معاً. وهو أمر صار يفتقر إلى أي اساس، ما يجعل الفراغ خياره الطبيعي لاستبعاد الاعتراف بنسب القوى الجديدة الإقليمية والمحلية.
الرابعة والأسوأ، أنه يحاول الالتفاف على المشهد السياسي ونسب القوى الجديدة باستقطابات ومعارك تشكل أخطاراً اضافية على البلد وما تبقى من دولته. وأولها استثمار الخوف من «داعش» و»النصرة» ومسالكهما الإرهابية بما فيها الاعتداء على عرساليين وخطف جنودٍ لبنانيين لمحاصرة «قوى الاعتدال السني»، بتخييرها بين:
– قبول توريط الجيش اللبناني رسمياً وفعلياً في حرب النظام الأسدي والمحور الإيراني على المعارضة السورية. وهي حرب ليست صائبة سياسياً ولا أكيدة الربح كما أنه لا قدرة للجيش اللبناني على خوضها وقبول نتائجها المحتملة على وحدته،
– وبين تخوينها واعتبارها بيئة حاضنة للإرهاب وحشد المسيحيين ضدها وضد اللاجئين السوريين واعتبارهم بدورهم مولّدين حتميين للإرهاب وتشجيع الامتناع المديد عن اتخاذ تدابير حقيقية لتنظيم وجودهم وامتصاص المشاكل الموضوعية الناشئة عن تزامنه مع ضعف إمكانات البلد واستعداداته، ومن ثم استغلال ذلك كله لترويج شعارات الأمن الذاتي والتسلُح والانضمام إلى «سرايا المقاومة» واستخدام الشرطة البلدية ستاراً لتنظيم فرق مسلحة، وما يولده كل ذلك من تشجيعٍ للمظاهر العنصرية. وليس شعار «مسيحيّو لبنان: خلِّ السلاح صاحي» سوى تكثيف مُركَّز لهذا الخط.
من الجلي أن الحزب يحاول «لبننة» حربه السورية باحثاً عبرها عن رقعة تعويضية واستباقية لاضطراره الآتي، مهما طال الوقت، إلى الانسحاب مُستنزَفاً، أو إلى الغرق في حربٍ تقسيمية لا تنتهي. وهي لبننة اتخذت اسم «تحرير عرسال» و»طرابلس» و»الحرب على التكفيريين» وهي التي تمنع إجراء أية تسوية مرحلية على الأساسيات الإجرائية لاستمرار الدولة و»الكيان» اللبنانيين، فكيف بالتسويات «التاريخــية» اللازمة لضمان «العيش معاً»؟
ذلك ما يعكس أيضاً عجز الحزب راهناً عن تقديم عرض سياسي متماسك. فكيف يمكنه مثلاً اعتبار ان «الوحش التكفيري لا يقتل إلا أبناء جلدته»، واتهام تمثيلهم السياسي جملة بالداعشية لرفضهم الانصياع لسياسته الهادفة حصراً إلى إخضاعهم؟ وكيف يمكنه ادعاء الدفاع عن المسيحيين في حين يمنع فعلياً ولو خلف واجهة «مسيحية»، انتخاب رئيس للجمهورية؟
مشكلة الحزب أن كل شيء تغيَّر فيما هو مُتمسكٌ بـ «صيغة» نجاحه مطلع 2011 بتحويل استعراض قوة رمزي لقمصانه السود إلى «أداة إقناع» كافية لإقالة الحكومة واتفاق الدوحة المنظم بدوره تحت ضغط هجمة أيار (مايو) 2008. يكاد ان يكون ذلك وصفة لطريق اللاعودة.
الحياة