حسابات أخرى
عناية جابر
تصوير ما يجري في العالم العربي منذ حوالي السنتين وكأنه حصراً ثورة داخلية تقوم بها شعوب ضد مستبدّيها، فيه من المبالغة قدر ما فيه من التبسيط والمراوغة أحيانا كثيرة. فلا نحن في جزيرة معزولة عن الكون ولا في العصر الحجري تنهار فيها الدول وتتركب أخرى من داخلها، من دون تأثر أو تأثير بالمحيط العام الجغرافي والسياسي. لا بل يمكن القول إن تظهير الصورة على هذا النحو يحمل، عن وعي أو عن عدم وعي، نوعاً من الخطورة التي تتجسد بحرمان هذه الثورات من رؤية واقعية لصراعها تجعلها جاهلة لطبيعة الصراع وقوانينه، كما لموازين القوى التي تتحكم به.
وإذا كان من الصحيح أن الشعوب العربية لديها الكثير من الأسباب كي تثور وكي تسعى إلى تحسين شروط عيشها وأشكال دولها، فإن الصحيح أيضا أن هناك الكثير من القوى الإقليمية والدولية التي لديها أيضا من الأسباب ما يكفي لتجعلها تتدخل في هذه الثورات بهذا الشكل أم ذاك، ديبلوماسيا أو عسكريا، كي تحافظ على مصالحها في وجه كل من يهددها، سواء كان من الداخل أم الخارج. وإذا كان من السذاجة التصديق بأن ما يجري لا يعدو كونه معركة شعـــوب تسعى لحريتها، فإن من السذاجة أكثر الاعتقاد بأن تلك القوى السياسية، داخلية أم خارجية، التي تروج لمثل هـــذا التصور، لا تفعل ذلك عن سابق تصور كي لا تعلــــن فــــورا عن اصطــفافاتها الحقـيقية في هــذا الصراع.
حاول الكثيرون، وببراءة الأطفال، سرد رواية عن قصة شعب يثور على حاكم ظالم وكدنا نصدق. لكن اصطفاف القوى الإقليمية والدولية مع هذا الطرف أو ذاك بيّن، ومنذ اللحظات الأولى للصراع، أن ما يجري يتعدى المسألة الداخلية ليطاول إعادة توزع موازين القوى وميادين النفوذ الإقليمية والدولية. ولقد عكست المواقف المتفاوتة المتناقضة لجميع الأطراف الداخلية والخارجية من هذه الثورة أو تلك خلفيات لا علاقة لها لا بالظلم هنا ولا بالحرية هناك. لن نكرر تناقضات وإرباكات الجميع إزاء ثورة البحرين وسوريا وليبيا.
فلا الموقف الصيني أو الروسي كان ابن الصدفة أو حبا أو كرها بالديموقراطية ولا الموقف الأميركي أو الفرنسي كان وليد النكاية بالاستبداد الشرقي. ولا الموقف الإيراني كان محباً للحرية في البحرين كارهاً لها في سوريا، ولا الموقف التركي، محباً لها في سوريا وكارها لها اليوم في مصر مثلاً. وصامتاً عنها في البحرين. واضح هنا أن ما يحدد مواقف هذه أو تلك من القوى ليست الحرية المسكينة التي هي على الأغلب آخر همها.
والأدهى من هذه وتلك هو موقف تلك القوى السياسية التي قادت وتقود الثورات من أجل الحرية في بلادها، من انتفاضة الشعب المصري الثانية. فلقد توقفت معركة الحرية بالنسبة لها عند نجاح حلفائها في الحصول على السلطة وكفى الله المؤمنين شر القتال. واضح هنا أيضاً أن ما يحدد التموضع في هذا الموقع أو ذاك ليست الشعارات المعلنة بل حسابات أخرى.
السفير