حساب الحقل.. والبيدر/ بدور عبد الكريم
هل يختلف الموت غرقاً على عمق عشرة أمتار عن الموت غرقاً على عمق عشرين متراً؟ وهل يغيِّر من نتيجة الموت شيئاً إن كان شنقاً أو خنقاً أو حرقاً ؟ وهل يدين القاتل أو يُبرِّئه , أو يعود بالجدوى على القتيل إن تغيَّرت أداة القتل ؟ أسئلة قد تبدو نافلة إلى حد الإلغاء, أو فائضة عن الحاجة إلى حد الإهمال , لكنَّها مع ذلك حصلت على قدر كبير من التداول في السوق السياسية الدولية , وفي تغطيتها لمساحات لا يستهان بها من ساعات الإرسال الفضائية وصفحات وسائل الإعلام الورقية أو الألكترونية , كما امتلأت بأصدائها الأجواء العامة والخاصة , واهتزت على وقعها سياسات دولية وأسواق مالية ومواقع عسكرية وبوارج حربية وحركة ديموغرافية .
كان كل شيء يسير كما أراد له كل طرف منذ البداية في سوريا . النظام يقتل بكل أنواع الأسلحة , من الرصاص إلى القصف المدفعي والصاروخي والطيران الحربي , مستندا إلى إصرار إيراني على مشروع في المنطقة لاينوي التراجع عنه , وطموح روسي إلى استعادة أمجاد قوة كانت عظمى حتى قبيل نهايات القرن الماضي , تناطح أميركا وتقاسمها مناطق النفوذ في العالم , وموقف أمريكي يتابع اهتزازات الزلزال السوري بعين مفتوحة على الأحداث والتغيّرات ومسارها , ويد مكتوفة عن الفعل الذي لم يكن ضروريا مادام نظام الأسد مستمرا في تأمين حدود إسرائيل وفاعلاً في تدمير سوريا , بينما المعارضة لم تقدم بعد لأميركا ما يدعو إلى الطمأنينة من أوراق اعتماد كافية وموحَّدة , وإن لم يمنع كل ذلك من تصريحات بعضها للاستهلاك الإعلامي يبقي الصوت الأميركي حاضراً ومسموعاً في الأروقة الدولية , وبعضها لتوجيه رسائل متعددة الاتجاهات لا تحول المناورة فيها , أو القول على القول أو الانسحاب من القول , دون قراءة مواقف مراوحة في المكان على تنوع صياغاتها . أما المواقف الإقليمية والدولية الأخرى , فلم تضف كبير أثر على المشهد , وإن اختلفت في دوافعها وتكتيكاتها , واتفقت في نتائجها , وفي مقدمها الموقف الإسرائيلي المتفرِّج والرابح وجاهز القبضة كلما استدعى الأمر .
بقي الحال على الحال حتى بعد إعلان أوباما أن السلاح الكيميائي خط أحمر , في رسالة تحذيرية للنظام , خطابها المعلن يقول بوجوب عدم استخدام هذا السلاح في المعركة , مع مساحة بياض كافية لاستخدام أي سلاح آخر يحلو للنظام استخدامه . أما مضمر الرسالة الأهم والذي وضع تحته هو بالذات الخط الأحمر فيشير إلى عدم تمكين حزب الله من هذا السلاح , زيادة في الحرص على ” أمن إسرائيل ” , على الرغم من توجُّه عناصر هذا الحزب في المدى الراهن والمنظور إلى سوريا لا إلى إسرائيل .
ومن المؤكد أن أوباما حينما وجَّه تحذيره كان مطمئنَّا – بالاتكاء على قوة الولايات المتحدة – إلى فاعلية أوامره , وعدم مجازفة النظام باستخدام سلاح محظور لا يحتاجه مع ترسانة أسلحته القابلة للتعويض بشكل دائم , سواء من روسيا أو إيران والتي أضافت إليه مقاتلين نظاميين ومتطوعين , عدا عن دفعها لعناصر حزب الله وكتائب أخرى عراقية للمشاركة بالقتال إلى جانب النظام . لكن وقوع المحظور باستخدام سوريا للسلاح الكيميائي الذي زاد عن الحد القابل للسكوت عليه , بابتلاع مناورات النظام في خلط الأوراق , وضع هيبة الولايات المتحدة في الميزان , لا لأن عدد القتلى الذي تجاوز مئة ألف من غير أن يؤرِّق هجعة البيت الأبيض قد زاد ألفاً أخرى , ولكن لأنَّ خفَّة هذه الهيبة الآن سيجعلها معرَّضة للاستخفاف بها في أزمنة وأمكنة أخرى لها حساباتها الهامة في السياسة الأمريكية . ولعلَّ أوباما قد رأى بالإضافة إلى هذا أن بإمكانه اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد , ففي الوقت الذي سوف يتمكَّن فيه من القضاء على أكبر قدر ممكن من القوة العسكرية السورية سيكون قادرا على توجيه ضربات مؤلمة إلى عدوَّين يتشاركان العداء له , حزب الله والجهاديين , وسيحصد في النهاية فرض حلٍّ تفاوضي بسوريا منزوعة الأنياب والأظافر , سواء بالأسد أو بدونه , وبمعارضة غير قادرة على الفكاك من القبضة الأمريكية , وبالتربُّع في النهاية على رأس طاولة المفاوضات في رسالة مرئيَّة إلى العالم . هذه كانت حسابات الحقل .. أما حسابات البيدر فقد كان لها شأن آخر , افتتحها البرلمان البريطاني مُلْحِقاً به حكومته في أوَّل كسر لسلسلة التحالفات الأمريكية التقليدية. ولعلَّ هذا ما أنعش ذاكرة أوباما أو وضع مصداقيَّته كرئيس على المحك في وعوده السابقة , سواء قَبْل الرئاسة أو بعدها , في ما يتعلق بقرار خطير كقرار الحرب , خصوصا أنَّ الذرائع التي أرفقها بقرار الضربة كانت شبه خاوية من فائدة مجزية للكبار في أمريكا أو ما يقابلها للمواطنين ليتحمَّلوا عبء تضحية بالنفقات أو الأبناء . وعلى هذا فقد انحشر مضطرَّا في عنق زجاجة الانتظار حتى يجتمع الكونجرس.
وعلى خلفيَّة الرفض المؤكَّد للضربة من قبل مجلس الأمن فقد كان عليه أن يجهد لحشد دولي يسانده , وفي عالمٍ دَرَجَ على ألا يتعامل بغير لغة المصالح , فإنَّ عدد القتلى السوريين ودمار بلادهم غير كافٍ لترك مقاعد المتفرِّجين والصعود إلى خشبة المسرح للَّعب بالنار دون مقابل , هذا عدا عن محاذير وإن كانت تقع في دائرة الاحتمال الضعيف إلا أنَّها قد تؤدي إلى عدم القدرة على الخروج من الحمَّام بعد دخوله .
أما على المستوى العربي فإنَّ لأمريكا من سوء السمعة ما يكفي للتشكيك في كلِّ ما يصدر عنها , هذا شعبيَّاً بطبيعة الحال , أما رسميَّا فقلَّة من الدول العربية من له مصلحة بالضربة العسكرية . وعلى هذا فقد تركت الأطراف المعنية معلَّقة بين رهانين وانتظار , لضربة أمريكية كلُّ ملحقاتها في مهبِّ الريح , حتى لو كان أوباما يحتفظ فيها بقطرة عسل تحت لسانه لن تكفي لمصالح دولية متناقضة ومعارضة مشتَّتة , ولن يتبقَّى منها في النهاية سوى حنظلٍ للعرب , ودم لسوريا ما زال يُسجِّل وبكلِّ اللغات ” ليس بالكيميائي وحده يقتل الأسد أبناءنا “..
المدن