حسبّتُهُ عاشقاً، وتبيّن أنه مُخّبر يتبعني/ تهامة الجندي
وصلتُ اللاذقية مرهقة، الغبار الكثيف يغطي باب بيت العائلة، والمنزل الجميل الأنيق، أضحى مرتعا للأوساخ والأعطال والحشرات من كل الانواع والأشكال. دخلتُ وخضتُ معركة النظافة والتجديد، ونوافذي التي انفتحتْ بعد الإغلاق الطويل، دلّتْ معارف الأسرة وصديقات المدرسة عليّ، والجميع لم يتأخر عن مساعدتي، كأني لم أبرح مكاني أبداً.
بسرعة رتبّتُ أوضاعي، ودخلت شبكة واسعة من العلاقات القديمة والحديثة، وبدأت أبحث عن عمل في المكاتب الخاصة، التي لا تحتاج شهادتي، ولا تمت بأية صلة للإعلام، ففي مدينتي الساحلية الصغيرة، تقلّ الأنشطة الثقافية، ولا تصدر سوى صحيفة يومية واحدة، من صفحتين، وأنا تعلمّتُ الدرّس، لا شاغر لي في دوائر الدولة.
معظم مكاتب القطاع الخاص في مدينتي ذاك الحين، كانت من النوع الخدمي، لتسيير شؤون السياحة والسفر برا وبحرا وجوا، لكن فرص العمل فيها محدودة جدا، داخلها أنيق ونظيف في أغلب الأحيان، لكن الدوام طويل من الثامنة صباحا وحتى الثامنة مساء، والأجور لا تتجاوز الخمسين دولارا. كانوا يسألونني، إن كنت أتقن الإنكليزية واستخدام الكومبيوتر، وكنت أستغرب هذا السؤال في بلد يعيش معزولا عن الآخرين، وفي مكاتب لا تملك أيا من التقنيات الحديثة، غير الهاتف وأحيانا نادرة الفاكس. وأدركتُ فيما بعد، أن السؤال كان يحمل تعبيرا فعليا عن عقد النقّص، وعن الرغبة في الانفتاح.
مهما يكن من أمر، فقد بدأت أتعلم الإنكليزية، ومبادئ بيع التذاكر الجوية والبحرية، ووجدت عملا بمؤهلاتي الجديدة في أفضل مكتب سياحي، وكنت سعيدة بنجاحي في تجربتي المهنية الأولى، مع أن حركة السفر كانت محدودة جدا والبيع قليل، وكان جلّ عملي يقتصر على مسايرة المدير، وتقديم القهوة والشاي لزوّاره، وتحضير السندويشات للمسافرين بحافلات النقل البري التابعة للمكتب. لم أتذمّر، ولم أشعر بالاستياء، ولم أجد في الكدّح الشريف ما يعيبني. أن آكل لقمتي بعرق جبيني، أفضل من التبطّل، وانتظار إحسان الآخرين.
مع راتبي المتواضع أضحت معظم مفردات حياتي ضربا من الكماليات، صرتُ أدخن أردأ أنواع التبغ المحلي، أمشي طويلا، ولا أركب التاكسي، ولا حتى المواصلات العامة، تنازلت عن أكل اللحوم، واكتفيت بشمّها مشوية لدى مروري قرب اللحّام، تخليت عن غرامي بالفاكهة والحلويات، حاربت ولعي بارتياد المقاهي وشراء الألبسة، وكما يقولون مددّتُ رجليّ على قدّ بساطي القصير، وزاد من ضيقي حالة الحداد العام، التي فُرضت على المدينة جراء وفاة باسل الأسد. أُغلقت المحّال التجارية والمدارس ودوائر العمل، وارتدى المواطنون السواد، وفرغت الشوارع من الناس، ومع ذلك غامرتُ، وذهبتُ إلى عملي بملابسي الملونة، وحين وجدت المكتب مفتوحا، تفاءلت بالخير، هذا يعني أن مديري من المعارضين.
لم تطل فترة عملي في مكتب السياحة، بعد ثلاثة شهور بتُّ أشعر بالإرهاق والمللّ، ومديري الذي دللني واحترمني في البداية، صب جام غضبه عليّ بعد حين، وفتح ورشة إصلاحات فوق رؤوسنا نحن العاملين، ابتلعت الإهانات والغبار لفترة، ثم رفعت صوتي، وأفرغت قهري، وغادرت.
جلستُ حزينة على شرفتي أفكر، تذكرت أملاك أبي المشاع، التي لم تسعف أيا منا، على الرغم من كل الأزمات المالية التي وقعنا بها. كتبت له أن يرسل لي وكالة عامة لتفويضي بالتصرف نيابة عنه، قلتُ سأبيع ما لديك من أراض وعقارات، وأوزّع المبلغ بالتساوي علينا، وافق على طلبي، وأرسل لي الوكالة. لكنها كانت تحتاج لختم الأمن، وبعثتها إليه لأخذ الموافقة.
لم أُدعَ إلى مراكز الأمن، لكنهم سألوا عني الجيران وأهل الحي، وزاروني في بيتي أكثر من مرة، كنت أتفاجأ بهم يقرعون بابي في الصباح الباكر أو المساء، لم يبّرزوا أمامي مهمتهم أو هويتهم، أو من أي فرع يأتون، ولم أطلب منهم أي إيضاح لشدة رعبي، كانوا في مشارف الثلاثين من أعمارهم، وسيميّ الطلّة، يرتدون الزي المدني. أحدهم عرفت وجهه، كان يلاحقني منذ أيام المدرسة، ورأيته مرات أمام واجهة مكتب السياحة الذي عملت فيه، كنت أحّسبه عاشقا متيّما، واكتشفتُ أنه مخّبر عليّ، وحين نظرت إلى عينيه الزرقاوين مستغربة ومذعورة، ارتبك، وكانت تلك آخر مرة شاهدته.
آخر المحقّقين دخل منزلي في الصباح، قبل أن أشرب قهوتي، وأجلسني طويلا أمامه بلا حراك، واستفسر بالتفصيل عن أبي وأختي وعني، وكنت أبدي استغرابي من أسئلته، سيرتنا معروفة للقاصي والداني، فكيف يجهلها رجل الأمن؟ لم أخفِ شيئا عنه، وهو أبدى تعاطفه معي، ووعدني أن يأتيني بالموافقة الأمنية، وبعد شهر عاد التوكيل إليّ مع الرفض.
تقوّضتْ أحلامي بالثراء، وعدّتُ ثانية إلى العمل، هذه المرة سكرتيرة في مكتب جديد للإعلانات، مهنة أقرب إلى اختصاصي من قطع تذاكر الطيران. أشرفتُ على الموظفين، نظمت اللقاءات، وقدمت القهوة والشاي للزوّار، أرّشفت الإعلانات في مصنفات حسب الموضوع، كتبت بعض أفكار الدعايات، لاحقت زبائن المكتب لدفع مستحقاتهم المتراكمة، ونجحت إلى حد ما في المهمات الموكلة إليّ، وحين لفتُّ انتباه صاحب الشركة، بدأ يضايقني المدير بملاحظات استفزازية، لم أجدها في محلها. تزامن ذلك مع إرسال أحد أفراد الاسرة المالكة لمبعوثه من أجل تصميم إعلان لصفقة سيارات. كنت أنهي شهري الثالث، وحين تقاضيتُ أجري الضئيل، تساءلت ما الذي يبقيني؟ حملت حقيبتي، وقلت لمديري، لم يعد يعجبني العمل عندك، خرجتُ، وتركته مشّدوها.
لا أحب دخول منزل العائلة الواسع، ما إن أضع المفتاح في الباب، حتى ينقبض قلبي، وأشعر بوحدتي، أختي في حلب، أمي وأبي في تونس، وأقاربي كل في مكان، وأنا لم ألتقِ من أحبه، وأشاركه الحياة بعد طلاقي، وثمة فراغات في روحي لا تملأها الصداقة. أتسكع طويلا، أدخل عتمتي ببطء، وأحتاج إلى وقت، حتى أستردّ نفسي من وحشتها.
لا أذكر في أي يوم، لكني كنت دخلت عزلتي، والليل في أوله، حين أيقظني جرس الهاتف من شرودي، قلت نعم، وأتاني صوت لا أعرفه، يغمّغم بكلام لم أفهمه، «عفوا، من المتكلم، ماذا تريد؟» استمر الصوت، وكأن المتحدّث لا يسمعني. اعتقدتُ للوهلة الأولى أن الخطوط تشابكت كعادتها، أغلقتُ السمّاعة، وعدت إلى جلستي، وعاودني الرنين، الصوت نفسه، لكنه واضح وعميق هذه المرة، يهددني بالذبّح، ويصف لي المشهد، مع دمائي التي تسيل على أدراج بيتي.
أصغيتُ جيدا، واقشعرّ بدني، وصرخت من؟ استمر الصوت بلا انقطاع، وتتكرر التهديد بحذافيره. أدركتُ أنني أستمع إلى تسجيل صوتي، وضعت السماعة، وأنا أرتعش من الخوف. تكرر الرنين ولم أرد، فصلت الهاتف، وأحضرت سكينا قوية من المطبخ، وضعتها بجانبي، وجلست أنتظر المعركة. طلع النهار، ولم يظهر القاتل، سألت صديقاتي، إن كن عشّن حدثا مشابها، أو كانت إحداهن هي من وضعت لي الشريط، ونفين، وحتى اللحظة لا أزال أفكر بقاتلي، هل كان مزحة سمجة، أم تهديدا مقصودا؟
كلا المديرين أرسل لي اعتذاره، وطلبني للعمل ثانية بأجر أكبر، لكني كنت صرفتُ النظر تماما عن التفكير بالمكاتب الخاصة، شعرت أنها غطاء لأعمال أخرى تجري في الخفاء، وصرت أفكر مليا بموقع يناسب شهادتي، وأجر يكفيني، في مكان بعيد عن جحيم بلادي، وصادف أن أعلنتْ إحدى الجامعات الحديثة في دولة الإمارات العربية عن طلب مدرّسين للعمل لديها من جميع الاختصاصات، ضمنها الإعلام، تقدمتُ بطلب التوظيف فورا، وجاءتني رسالة رسمية من الجامعة، تعلمني بوصول طلبي، وتطلب مني التريث حتى يتم البت بأمره، طال انتظاري، ولم أحصل على مقعد التدريس. أرسلت لجريدة «البيان» أطلب العمل، ولم يأتني الرد، وبدأت أشعر باليأس.
زارتني أمي، حدثتها عن شقائي وشقاء أختي، وطلبتُ منها أن تشتري بيتا صغيرا، يؤوينا في دمشق، فهي الوحيدة بيننا من تجيد جمع المال، وتنام على خزين لا ينضب. وافقتْ، واشترتْ مسكنا أرضيا على العظم في منطقة جرمانا، سجّلَتهُ باسمي واسم غرناطة، واحتفظتْ لنفسها بحق الانتفاع به مدى الحياة. سافرتْ إلى تونس، وتركتْ لي مهمة الإشراف على الإكساء، ورحتُ انتظر بفارغ الصبر عودتي إلى العاصمة.
في هذه الأثناء تلقيّتُ اتصالا مفاجئا من مروان، كان زميلي في كلية الصحافة، وانقطعنا عن بعضنا أكثر من خمسة أعوام. حديثي كان باردا وحذرا، وصوته متوقد. أعلم أنه كان معجبا بي، لكنه «بعثي»، وتوجسّت، كيف حصل على رقم هاتفي، وماذا يريد؟ «علمتُ من خالد أنكِ في سوريا، وأخذتُ رقمكِ منه» قال، وعلى الأرجح كان يعي منولوغي الداخلي، وكانت مكالمته الأولى قصيرة ومقتضبة.
في المكالمات الأخرى استرسلنا في الحديث عن ذكريات الجامعة، ثم عن عمله وعطالتي عن العمل، واستفزّني حين اتهمني بالضعف والاستسلام للواقع، قال: دعيك من صحف الدولة «التعّبانة»، ثمة دوريات عربية هامة، بإمكانك أن تراسليها، قلت: جرّبتُ كل شيء، ولم أفلح، الأمر يحتاج إلى معارف وعلاقات. أبدى استعداده لمساعدتي، ورجاني أن أبعث له شيئا من كتاباتي، كي ينشره في المجلة اللبنانية الشهرية، التي يدير مكتبها في دمشق.
فردتُ أوراقي، أمسكت قلمي، وكتبت عن آخر فيلم شاهدته منذ فترة قريبة، «كومبارس»* الذي منعته الرقابة بعد عرضه الأول. طويت مقالتي وأرسلتها له بالبريد، ومكثت انتظر الرد، والكثير من الوساوس تثقل رأسي: هل تسرّعت، هل الموضوع الذي كتبته يستحق النشر، وهل نشّره سوف يسبب لي المساءلات؟ وفي حمّأة قلقي، جاءني صوته هادئا، مقالتي رائعة وفي طريقها إلى النشر، وهو ينتظر مني المزيد، لم أصدقه أول الأمر، لكني شعرت أني ملكة الصحافة، حين أرسل لي المجلة بعد عشرة أيام، وفي قلبها مادتي وألف ليرة سورية، كانت أول مكافأة قبضّتها.
المجلة تُعنى بالشأن الاقتصادي حصرا، ومروان أفرد لمقالتي الصغيرة صفحتين، وكانت هذه المرة الأولى والأخيرة التي تنشر المجلة على صفحاتها مادة ثقافية. طرّت من الفرح، جبّت شوارع مدينتي الصغيرة كلها، ثم دعوتُ جدتي التي كانت في ضيافتي إلى الغداء.
«أنا في اللاذقية، وأود أن أراك» هتف لي مروان ذات صباح، وأسرعت للقائه، وحين نظرت إليه، كنت كمن ينظر إلى ملاك الرحمة، كنت ممتنة له، وسعيدة به، ولم انتبه إلى الشبق الذي يطل من عينيه، ظننته الحب يفتح قلبي من جديد. أمام البحر جلسنا وتسامرنا، وأمامي شتم البعث والسلطة الحاكمة، لم أجرؤ على مجاراته، اكتفيت بقولي لا أختلف مع مبادئ البعث، لكني ضد كل فاسد يخّرقها، ولم أكذب، كنت أؤمن بالوحدة والحرية والاشتراكية، وأثق أن ثمة بعثيين شرفاء، وأن صديقي واحد من بينهم.
انقضى النهار، نامت الشمس، انتصف الليل، ولم نشعر بمرور الزمن. أحاديثنا لا تنتهي، وصوت ضحكنا يصمّ الآذان. مشاريع مروان كثيرة، ينوي إصدار جريدة من بيروت، ويريدني أن أكون رئيسة تحريرها، ويقّسم على طاعتي. يعدني بعد انتقالي إلى دمشق أني سأدرّس في الجامعة، ويدعوني لقضاء عطلتي معه في بلغاريا. وحين أدركنا الوقت، وهرعنا مسرعيّن إلى سيارته، فتح لي الباب، وقال: قودي، قلت: لا أعرف، قال: تعلمي، أعطاني الإرشادات ثم المفتاح، أدرته وأقلعتُ. لم أشعر بالخوف، وهو يرمقني بود، ويقول: «كأن أمك ولدتك خلف المقود»، لكني وأنا أقهقه، وقعت في مطبّ، كاد أن يودي برأسه.
() «كومبارس» فيلم روائي سوري، سيناريو وإخراج: نبيل المالح، بطولة: بسام كوسا وسمر سامي، إنتاج «المؤسسة العامة للسينما» عام 1993.
المستقبل