حسين العودات: هذه الانتفاضة لن تتوقف وإن تراجعت قليلاً فإنها ستكبر
راشد عيسى
أصدر الكاتب والباحث السوري والإعلامي المخضرم حسين العودات كتاب “النهضة والحداثة، بين الارتباك والإخفاق”، يرصد فيه مشاريع النهضة العربية خلال قرنين من الزمن، ويفنّد كذلك العوامل التي أدت إلى تعثر حركة النهضة والحداثة. ولأن الكاتب يضم إلى جملة ألقابه السابقة وصف المعارض البارز فمن الصعب أن لا ينظر المرء إلى الكتاب بمعزل عن حركة الاحتجاجات في بلده، فهل هي مجرد مصادفة، وهل يجد الكاتب في ربيع الثورات العربية الراهنة حاضنة وحاملاً لإطلاق المشاريع النهضوية التي ظلت تتعثر على مرّ العقود، بسبب الاستعمار أو الاستبداد أو الهزائم. هنا حوار معه:
÷ هل من معنى ما لهذا الكتاب في الظروف الراهنة؟ وهل تقصدت صدوره الآن؟
المنطقة كلها قلقة بخياراتها السياسية والايديولوجية خلال القرنين الأخيرين اللذين عاشهما العرب وحاوروا فيهما وكتبوا وتحزبوا وأعطوا تعاريف للحداثة والتطور والنهضة والقومية والدولة. فلا شك بأن هذا الكتاب ليس بعيداً عما نعيشه منذ قرنين من دون أن نصل إلى نتائج واضحة، من دون أن يحسم العرب موقعهم.
وبالفعل تقصدت صدوره الآن. في كتابي الأخير “الآخرون في الثقافة العربية” الذي صدر قبل عامين، تطرقت إلى الكيفية التي فهم عبرها العرب الشعوب الأخرى. كيف تصوروها، وماذا عرفوا عنها. ذلك كان ملحاً أيضاً، لكن الكتاب الجديد ملحّ أكثر، فهو عن انشغال العرب الذي نراه كل يوم بقضاياهم الفكرية. من الملاحظ أن هناك تيارات عربية فكرية متداخلة، غير ثابتة، وكأنه ليس هناك تيار طاغ له الدور الأكبر. انتبهت لهذا الأمر بعد احتلال العراق، حيث توسع أكثر فأكثر مفهومنا عن الاحتلال، مفهومنا عن الليبرالية، صار هناك تيار لليبراليين الجدد، الذين راحوا يكتبون حول المعاصرة والحوار بين الشعوب، وكل هذه القضايا التي تكاد تكون جديدة علينا.
أمر آخر ملح هو انتشار التيار السلفي، فرضه ونشر أفكاره، وهو برأيي يحمل أفكاراً بعيدة عن الإسلام كثيراً. كل التيارات الاسلامية سيست الإسلام وكأن الإسلام مذهب سياسي لا ديني. هذا التأسيس كان خاطئاً، واتخذ التسييس موقفاً غير صحيح من العلمانية، معتبراً أنها نظرية ضد الدين. لكن العلمانية شيء آخر، وليست ضد الدين. الدولة العلمانية تحمي عقائد الناس وتدافع عنها، وتهيئ المناخ المناسب للجميع كي يمارسوا عقائدهم كما يشاؤون. إلا في حالات علمانية نادرة في التاريخ. لكن الفهم الذي طغى، عند المثقفين وغير المثقفين، أن العلمانية ضد الدين. حتى أصبح رائجاً أن الدولة العلمانية هي الكافرة، والعلماني هو الكافر. لقد سمعت التلفزيون عشرات المرات يقول هذا زنديق علماني، وهذا كافر علماني. مع أنه يمكن للمرء أن يكون علمانياً ومؤمناً. هذا كان من بين دوافع هذا الكتاب.
÷ صدر الكتاب عن “دار الساقي” فيما تملك دار نشر عريقة هي “الأهالي”؟
أكثر مصداقية أن ينشر الكاتب في دار غير التي يملكها. أما أن ينشر المرء في داره فهو كمثل السلطة التي حين عقدت مؤتمراً تشاورياً وجاءت بجماعتها ليناقشوا الإصلاح.
÷ إذاً “دار الأهالي” على قيد الحياة؟
طبعاً، رغم كل الصعوبات، ولكن بالحد الأدنى. نصدر في العام كتابين أو ثلاثة فقط. النشر في البلدان العربية صار مشكلة كبيرة، ومن غير الممكن أن نلعب لعبة تغيير الطرابيش، تضع طربوش هذا على رأس ذاك، فهذه عملة تجارية، غير ثقافية، وأنا أردت أن أكون بمنأى عن هذا السلوك.
تحديث لا حداثة
÷ هل ترى اليوم أن هناك ظروفاً مواتية لإطلاق مشاريع نهضوية.. ولهذا جاء كتابك عن النهضة؟
نحن العرب نغرق في مستنقع، وأظن أن أفكار النهضة والحداثة هي وسائل حداثية لنخرج من هذا المستنقع. ما زلنا، وهذه واحدة من الكوارث، نحاول أن نحل المشاكل الراهنة بقوانين القرن السابع الميلادي. نريد أن نقصر الواقع الحالي ونوائمه مع قوانين القرن السابع. وهذا مستحيل. بعد أربعة عشر قرناً من ظهور الإسلام، كيف يمكن ذلك؟ ثم هل بالفعل نصّ الإسلام على أن تعاليمه وفقهه أبديان؟ هو لم ينص على ذلك، والفقه في النهاية ليس ديناً بل اجتهادات يمكن أن تتغير. في ضوء ذلك، في ضوء تجميد الفكر، جمد التراث، وجمدت الحداثة، النهضة، حياة المجتمع، وقيمه، المساواة بين الناس.
ما زالت شروط القرن السابع في المساواة يعمل بها الآن، وهذا قانون الأحوال الشخصية في كل البلدان العربية، النظرة إلى المرأة، الرجل، النظرة إلى الحاكم، حيث عليك قبول الحاكم حتى لو سلخ ظهرك، وهو أولاً حديث غير صحيح، وثانياً عمره أكثر من ألف وثلاثمئة عام.
كل هذا التراث والتراكم المخلّ الذي يقف عقبة، سداً أمام التطور، هو ما يجب أن ننتهي منه، ننتهي بأفكار حداثية، أعني بالعقلانية، بالفردية، باعتبار المواطنة هي المرجعية الوحيدة. لا الطوائف والأقاليم والاثنيات والمذاهب، فليس هذه مرجعية المواطنة، الفرد الحر. العقل، وليس النقل، هو الذي يقرر مصيرنا، أن نوائم حياتنا مع معطيات الحداثة. أن نأخذ الحداثة الفلسفية ونناقشها ونغنيها ونطورها ولا أقول نأخذها كما هي، ولكن لسوء الحظ أخذنا من الحداثة التحديث فقط، نمط الحياة، الأكل والشرب واللباس، والحياة الاستهلاكية. هذه ليست حداثة بل تحديث. أما الحداثة فهي نظرة شاملة إلى الكون، الديموقراطية، علاقة الناس بعضهم ببعض، هذه هي الحداثة وهذا هو ما نحتاجه.
÷ هل رأيت في ربيع الثورات العربية ما يؤسس لقيم النهضة؟
لا أظن أنه يؤسس، بل يرفض هذا الواقع القائم، هذه الأنظمة المستبدة، المتخلفة التي تطلق على نفسها أسماء غريبة عجيبة، من قبيل نظام علماني، علماً أنه لا نظام عربيا علمانيا على الإطلاق. هذه أكذوبة كبرى، إلا إذا كانت العلمانية هي السماح بالمشروبات الروحية. لا نظام حداثيا، لأن النهضة والحداثة يقتضيان عقلانية وديموقراطية وحرية وفصل سلطات ودولة حديثة. نحن أمام أمرين، أو حاجتين، أولاً تحديث الفكر البشري والمنطلقات والثقافة البشرية العربية، الفردية وفهمها للكون والحياة، ثم تحديث الأنظمة السياسية بالديموقراطية وفصل السلطات ومرجعية المواطنة. هذه الثورات، أو الربيع العربي، لم يأخذ هذه الأمور بعين الاعتبار، وأنا أفهم ذلك، هو يرفض، هي عبارة عن نظام مبني على رفض أنظمة استبدادية متخلفة قائمة غير عادلة، وترفض المشاركة بالسلطة والثروة. لكن لم تأت المرحلة الأخرى التي تبني مجتمعات ودولاً جديدة في ضوء الحداثة.
÷ كيف توصّف ما يجري في سوريا اليوم؟ هل هو امتداد للثورات العربية، أين تلتقي معها وأين تفترق؟
أعتقد أن ما جرى ليس اختراعاً ولا إبداعاً، هو نتيجة لشروط موضوعية قائمة، وبالتالي تراكم هذه الشروط هيأ المناخ لما جرى، وكان المناخ في البلدان العربية يحتاج إلى شرارة للانطلاق، إذا توفر الشرط الموضوعي فأنت لا تحتاج إلا للشرارة، هذه التي انطلقت في تونس ثم في مصر وصولاً إلى سوريا. لا يختلف المجتمع، ولا النظام السياسي السوري عما كان في مصر وتونس، إلا بالدرجة وليس بالنوع. من حيث الجوهر كلها أنظمة استبدادية، ترفض مشاركة الناس، ترفض حقوق الإنسان، ترفض مشاركة المواطنين في السلطة والثروة، كما ترفض مفاهيم الدولة الحديثة، أي الحرية، العدالة، المساواة وتكافؤ الفرص وفصل السلطات ومرجعية المواطنة. هي أنظمة مستبدة ديكتاتورية شمولية متخلفة تعود لمئات السنين مع فارق المعاصرة، فما جرى في سوريا، هو كما جرى في غيرها، والشروط هي نفسها كذلك.
النضوج
÷ باعتبارك تنتمي إلى درعا، المدينة التي تعتبر مهد الاحتجاجات في سوريا، ماذا أملى عليك ذلك، وكيف أثر بك؟
لقد فاجأني ذلك تماماً، أنا أعرف الناس، همومهم محلية جداً، وشخصية جداً وخاصة، أما أن تكون همومهم عامة، وأنهم منذ اليوم الأول نادوا “الشعب السوري ما بنذل”، ونادوا بالحرية، وإصلاح النظام، فهذا ما أدهشني حقاً. لم أكن أعتقد أن الناس تحمل هذا النضوج السياسي وخاصة الشباب منهم. كنت أعتقد أن الشباب كغيرهم، من الشباب العرب، لا يهمهم إلا الأمور الاستهلاكية، أما أن يهمهم الشأن العام ويحملوه، كما يحملون هذا الاستيعاب للمشكلة العامة ويحملون هذه الثقافة السياسية، فكل ذلك فاجأني. هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ درعا منطقة ريفية، والريفيون في تلك المناطق غالباً ما يهتمون بشؤونهم الخاصة، أما أن تهتم درعا بالشأن العام، أن يخرج الواحد منهم ليفتح صدره لأجهزة القمع ويقول أطلقوا النار، ونريد الحرية، أطلق النار إن كنت كذا.. فقد كان ذلك مذهلاً. وهنا كانت المفاجأة الحقيقية. من منطقة ريفية تخرج مثل هذه الثورة، ومثل هذا الوعي .. أنا كدت لا أصدق أول ما سمعت الشعار الأول “الشعب السوري ما بينذل”. كيف؟ أعرف أن هؤلاء يريدون مدرسة ومستوصفاً وطريقاً، أما هذه الشعارات فقد كانت جديدة.
÷ كيف تفاعلتَ مع تظاهراتها؟ هل نزلت؟ شاركت؟
أنا لي بيت هناك، وكنت أذهب مرة كل شهر أو شهرين، فصرت أذهب كل أسبوع. أجتمع مع الناس، وأسمع منهم وأعرف آراءهم، أحاول فهم همومهم وما هي الدوافع التي تجعلهم يتحركون وما الآفاق المقبلة التي يتصورونها. كيف يفكرون بمستقبل البلد ومواقفهم من القضايا الفكرية الإشكالية. كان هذا هو همي الأساسي. أدركت منذ اليوم الأول أنهم يريدون أن يستلموا قيادة حالتهم، قيادة حركتهم. ولم أطرح نفسي عليهم ولا مرة ناصحاً ولا مستشاراً ولا حكيماً.
لن تتوقف
÷ إلى أين تتصور الأمور تمضي في سوريا؟
برأيي الشخصي، هذه الانتفاضة، الثورة، سمّها ما شئت، لن تتوقف، وإن تراجعت قليلاً فإنها ستكبر أكثر فأكثر. لا يعني تباطؤها هنا أو هناك أنها ستتوقف. تباطؤها يعود إلى أن الجيش وقوى الأمن احتلت كل سوريا، وبالتالي هذا الوجود المسلح والعنيف للسلطة يمنع أحياناً خروج التظاهرات، فهي تشتعل حيثما أمكن. أحياناً تخرج التظاهرات بين الدبابات. المشكلة أن النظام يعتقد، لأنه قصير النظر ولا يرى أبعد من أنفه، أن الضعف هنا وهناك أو التراجع يعني أن الاحتجاجات ستنتهي . واقع الحال ستنتهي لأن العسكر وقوات القمع احتلت البلاد، أما حالما انسحبت هذه القوى فستخرج التظاهرات من جديد. أريد أن أقول في النهاية إن الشعب السوري لن يتوقف عن المطالبة بحقوقه كاملة، وعلى رأسها المشاركة بالسلطة والثروة، وإقامة نظام ديموقراطي تعددي تداولي يملك كل معايير الدولة الحديثة. الشعب لن يتوقف، وهذا لا يمكن أن يحدث. من جهة أخرى النظام يعتقد أن هذا الحل الأمني وهذه الهمجية والاعتقالات والقسوة والمدفع ستقضي على الانتفاضة والثورة، وهذا اعتقاد خاطئ فهو ليس بحاجة إلى عنف، بل إلى حوار وطني سياسي شامل وأن يقبل اجتماع كل القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السورية وأن تناقش الوضع والأزمة، وأن تسعى إلى عقد اجتماعي جديد ودولة جديدة. وعلاقات جديدة، هذا هو الحل. ما دام يصرّ على الحل الأمني فسيكون هو ضحية هذا الحل الأمني، وبالتالي؛ التظاهرات لن تبقى هكذا، لنلاحظ تطور الشعارات: “الشعب السوري ما بينذل”، حرية، إصلاح النظام، إسقاط النظام، وبرأيي المرحلة القادمة ستأتي تلقائياً من دون تخطيط؛ الإضراب الشامل، ثم الاعتصام في الساحات العامة، وأخيراً العصيان المدني. وهذا سيؤدي بالضرورة إلى تصدع النظام، وكذلك الأمر على المستوى الاقتصادي، من حيث العقوبات الدولية الشديدة، ومن حيث التباينات داخل النظام، التي ستتحول إلى تناقضات. من حيث الانشقاقات الفردية في الجيش الذي ستزداد وتكبر، كل هذا سيودي بالنظام بلا شك إذا لم يسارع إلى قبول اجتماع السوريين بكل أطيافهم والاتفاق على دولة جديدة وعقد اجتماعي جديد.
السلطة والدولة
÷ أنت عضو في “هيئة التنسيق الوطني”، ولم يكن بين أهدافكم إسقاط النظام، بل إسقاط نظام الاستبداد الأمني؟
بل إسقاط النظام الاستبدادي الفاسد..
÷ البعض فسّر ذلك بأنكم تعوّلون على استمرار شق من النظام؟
ليفسر الآخرون كما يشاؤون، نحن قلنا العمل على إسقاط النظام الاستبدادي الفاسد، وليس الأمني. هناك أمر لا بد من قوله، نحن لا نطالب بإسقاط الدولة ومؤسساتها الإنتاجية، التي تكونت منذ الاستقلال إلى اليوم، ولا نعول على إسقاط الشرطة المدنية، ولا النفوس، والأحوال الشخصية، ومؤسسات الإنتاج، ولا حتى الجيش الوطني. هذا يسقطه الغزو الخارجي كما حدث في العراق. أما نحن فنريد إسقاط هذه السلطة السياسية بما لها من سلطات تنفيذية وتشريعية وقوانين قضائية وأجهزة أمن. هذه السلطة المتشعبة التي ابتلعت الدولة وأتاحت لأجهزة الأمن أن تبتلعها هي التي يجب أن تسقط وليس الدولة التي بناها الناس. هذه دولة الناس لا دولة السلطة. السلطة اغتصبت الدولة، والأمن اغتصب السلطة والدولة معاً. هذه دولة الناس في النهاية ولا نراهن على إسقاطها بل إسقاط السلطة الاستبدادية الفاسدة، مع المؤسسات التابعة لها (السلطة التنفيذية والتشريعية والسلطة القضائية بصيغتها الحالية والقوانين الأمنية).
÷ منذ أيام ولد “المجلس الوطني السوري” وأنتم غير ممثلين فيه، فما موقفكم منه؟
يحق لأي سوري أن يعارض بالطريقة التي يراها، ويحق لأي جماعة سورية معارضة أن تعقد مؤتمراً. أما بالنسبة لما سمي “المجلس الوطني السوري” فإننا كهيئة تنسيق لم ندع إليه، ولم نشارك، مع أن لدينا خمسة عشر حزباً سورياً، أي كل الأحزاب المعارضة عدا “حزب الشعب”. ألا يستحق خمسة عشر حزباً ان يدعوا إلى هذا المؤتمر. أستغرب أنهم قالوا في مؤتمرهم الصحافي إنهم يمثلون المعارضة في الداخل والخارج. على كل حال بارك الله جهودهم. ما يهمنا تحويل النظام أو تغييره إلى نظام ديموقراطي تعددي تداولي كائناً من كان يقوم بهذه المهمة، ما عدا التدخل العسكري الأجنبي.
÷ ألم تؤدّ ولادة هذا “المجلس” إلى خلخلة ما في “هيئة التنسيق”؟
أبداً. ونحن نعرف منذ شهر أنه سيعقد. كانت هناك محاولات بائسة لإلحاقنا بهم، لكننا لم ندع. اقترحنا أن تجتمع جميع الأطراف في بلد عربي، القاهرة أو بيروت، لنناقش من الذي سيمثلنا، وما هو جدول الأعمال، والمبادئ ووجهة النظر السياسية.
÷ كيف تنظر إلى مواقف المثقفين من الثورة؟ هل كانوا على قدر الأزمة؟
المثقف تاريخيا لديه مشكلة. الحاكم يحاول دائماً أن يدجن المثقف طوال التاريخ العربي، بمختلف السبل، بالترهيب أو بالترغيب، يخضعه لظروف قاسية في أحيان كثيرة، ولأن الأنظمة العربية غالباً شمولية خلال تاريخها إذا أراد الحاكم استطاع أن يجعل المثقف جائعاً دائماً، ولا يجد لقمة عيش، يضطره في كثير من الأحيان لأن يهادن. ولذلك عندنا خطابان للمثقفين الأول خطاب للموالين الذي فيه نفاق وتدليس وهذا هو الغالب ويشمل المثقفين والفقهاء أيضاً. وهناك خطاب المثقف النقدي للسلطة وللسياسة والمجتمع. انعدام الحريات في مجتمع ينعكس مباشرة على المثقف، ليس على تخويفه بل على قطع رزقه، هكذا يعيش المثقف حياة في غاية السوء. تجد مثقفين كثراً مع الثورة ويتمنون لها النجاح، ولكن لا يجرؤون على البوح، مجبرون على أن يسكتوا خوفاً على لقمة العيش، فهي بيد السلطة.
من تجرأ على البوح، كان سقف تجرئه أقل من الحد الأدنى الضروري، لكن الموقف الحقيقي الجذري والمواجه في وجه السلطة نادراً ما نجده. وأنا أفهم ذلك في سوريا، لأن السلطة قابضة على كل شيء، السجون والقمع والمال ولقمة العيش وكل شيء، فمن يجرؤ على الكلام. وإن تجرأ فسيحسب ألف حساب ويبقى دون الحد الأدنى، وكما يقولون تحت سقف الوطن، أي تحت أقدام النظام، هذا هو سقف الوطن.
عن ملحق السفير الثقافي – جريدة السفير البيروتية 7/10/2011