حسين العودات… يا لثارات يعرب!/ يزن الحاج
لا يخرج «صورة العرب لدى الآخر في ضوء العلاقات الخارجية» (الساقي) عن بوتقة محاولات تغيير صورة العرب والمسلمين، من دون المحاولة إلى تكريس صورة أخرى. اعتمد الكاتب السوري نبرة تبريرية وتعاطفية مع العرب، أدت إلى تقليص هامش الموضوعية إلى حد تلاشيها التام في بعض الفصول
لم يكن العرب والمسلمون في انتظار أحداث سبتمبر 2001 كي يقدموا صكوك البراءة أمام الغرب؛ فالمحاولات الدائمة لهم لكسر الصورة الصنميّة عنهم لم تتوقف يوماً. لكن تلك المحاولات المتكررة، على كثرتها، لم تحاول تغيير إيقاعها، أو مراجعة ما تم تقديمه مسبقاً. كانوا مشغولين بكسر الصورة النمطيّة بدلاً من محاولة تكريس صورة أخرى. وليس من المستغرب أن نجد عشرات العناوين المتعلقة بـ«صورة العرب» أو «صورة المسلمين» في المكتبة العربية، وخصوصاً في العقد الأخير. بالطبع، كانت ثمة محاولات جادة قليلة، لكن ما تبقّى لم يكن أكثر من ردة فعل خافتة؛ إذ لا تزال الغلبة، إلى اليوم، لصالح «الغرب»، على اختلاف توجّهاته: فالمفارقة القاسية أنّ العرب والمسلمين يسعون إلى كسر هيمنة الغرب على حقل دراسة «صورة الآخر»، ولكن استناداً إلى هذا الغرب نفسه، أي أنّ كل درجات الخلخلة في هذه الصورة النمطية قد حدثت (بصرف النظر عن مدى تأثيرها الفعلي) بواسطة كتّاب غربيين.
لا يخرج كتاب حسين العودات «صورة العرب لدى الآخر في ضوء العلاقات الخارجية» (الساقي) عن بوتقة محاولات تغيير صورة العرب والمسلمين، عبر إعادة كتابة و/أو توصيف التاريخ. ينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول، يتحدث كل منها عن «آخر» مختلف، ولكن ضمن صورة شبه موحّدة للعرب عندهم. صورة العرب، بحسب الكتاب، عند الفرس، الترك، الصقالبة (السلاف)، الهند، الصين، الأفارقة، اليهود، وأوروبا، هي ذاتها تقريباً: سلبية بالعموم ولكن بتنويعات مختلفة. ويشير العودات (الذي يماهي في هذا الكتاب بين العرب والمسلمين بحيث يصبحان كياناً واحداً) إلى أن السبب الأكبر في النظرة العنصرية للعرب تجاه الآخرين هو «الفهم المغلوط للقرآن». وهذه الإشارة الخجولة هي الإشارة الوحيدة، تقريباً، في الكتاب إلى تحميل العرب بعض اللوم والمسؤولية تجاه سوء صورتهم لدى الآخر. يتابع أنّ العنصرية المضادة التي شنّها العرب على جميع من هم غير عرب، منذ عصر الفتوحات الإسلامية، مبرّرة لأنهم كانوا المنتصرين. واستناداً إلى هذه النتيجة، وثنائية الغالب والمغلوب، يقوم السرد التاريخي في جميع فصول الكتاب، من دون أن يعطي حق التبرير ذاته للغالبين الآخرين في عنصريتهم تجاه العرب. لذا، سنجد أنّ إيقاع تلك النبرة التبريرية والتعاطفية مع العرب تسري على جميع صفحات الكتاب، ما أدى بالنتيجة إلى تقليص هامش الموضوعية، إلى حد تلاشيها التام في فصول بذاتها.
بوسع القارئ حذف ستة فصول كاملة من الكتاب من دون أن يتأثّر المضمون. في ما عدا الفصلين المتعلقين بالفرس والأتراك، نجد أن العودات اكتفى بالتوصيف التاريخي من دون أي تعقيب أو تعليق أو اعتراض، إذا استثنينا بضع ملاحظات هامشية. كان السرد التاريخي هو الغالب على الكتاب، ما جعله أشبه بـ«ويكيبيديا» أخرى. وهنا، لا عجب أن نجد أنّ «ويكيبيديا» كانت فعلاً أحد «مراجع» الكتاب. لذا، يمكننا تخيّل مقدار الأهمية التي يمكن أن يعطينا إياها مثل هذا الكتاب الذي يمكن إدراجه بسهولة في بند «الأبحاث» التي سادت في السنوات القليلة الماضية، ويمكن فيها لأي كاتب أن يصبح باحثاً بمجرد الاعتماد على مقال طويل مترجم، ومقالات عدة من الصحافة اليومية، وعشرات من مدخلات «ويكيبيديا».
وكذلك، لم يخرج الفصل الخاص باليهود عن الجو العام للكتاب، أو حتى عن الصورة النمطية الأخرى السائدة بشأن «اليهود». نرى أن اليهود هنا متفرّدون؛ بمعنى أنهم ذوو سمات موحّدة وفريدة (بصرف النظر عن إيجابيتها أو سلبيتها) منذ يهود يثرب، وصولاً إلى كيان العدو الذي ترد تسميته صريحة في الكتاب بأنه «دولة إسرائيل». ولكن لو ركّزنا على الفصلين المهمّين الوحيدين في الكتاب، أي الفصلين الخاصين بالفرس والترك (الفصلان الأول والثاني على الترتيب)، فسنجد أن العودات قرّر سلفاً أنّ مثل هذا الكتاب لا يحتاج إلى الموضوعية، إذ يكفينا ترديد الأفكار السائدة، وإصدارها في كتاب عن دار نشر كبيرة، لتصل رسالة «البحث» العلمي في «زمن الانتفاضات العربية».
ابتداءً بعنوانَي الفصلين، يستطيع القارئ مباشرة إدراك تحيّز الكاتب لشعب بعينه، ومعارضته (أو كراهيته حتى) لشعب آخر. «ما زال الفرس فرساً و»ساسانيين»: يا لثارات يزدجرد!» كعنوان أول، و«الترك الفرحون بالدين والثقافة العربية الإسلامية» كعنوان ثانٍ، يكفيان وحدهما للدلالة على رسالة الكاتب. فالفرس «ما زالوا يرغبون في الثأر من معركة القادسية»، وهم يناصبون العداء للعرب، لا في إطار التنافس الطبيعي فحسب، بل لأنهم يكرهونهم لذاتهم استناداً إلى فكرة عنصرية موحّدة، وليست العنصرية العربية المضادة سوى رد فعل «في إطار الرد على الشعوبيين الفرس». كما أنّ هؤلاء الشعوبيين أغروا أقليات (شعوبية) أخرى كالنبط والقبط والأندلسيين بالتمرد على السيّد العربي. وبالطبع، لم يبخل علينا الكاتب بالأمثلة عن هذا «التمرّد»، «فلدى الفرس ظهرت طبقة وطنية تدعو إلى الاستقلال، واتخذت في بعض الأحيان شكل زندقة وإلحاد، والنبط ظهرت على شكل عصبيّة للأرض وزراعتها، وتفضيل معيشة الحرث والزرع على الصحراء ومعيشتها». كان لا بد للعودات بعد هذا الاقتباس من أن يكتب عبارة «يا لثارات يعرب والإسلام!»، كي تكتمل الرسالة. أما الأتراك، بحسب العودات، ورغم احتلال الدولة العثمانية للبلدان العربية، «بقي العثمانيون والترك عامةً متصالحين مع العرب… وكانت نظرتهم إلى العرب، حملة الإسلام، فيها شيء من التقديس، ما لم يكن متوفراً عند الفرس». وقد بلغت حماسة الكاتب للأتراك درجة يعتبر فيها أنّ المرأة التركية كانت ذات منزلة مرموقة في العصر العباسي، والدليل هو أنّها أصبحت «زوجة للخلفاء العباسيين، ولا سيما في فترة الازدهار والرخاء، حيث امتلأت قصور الخلفاء بالجواري التركيات». هنا، لا بد من أن نعقّب «يا لثارات النسويّات!». أما لمحات العنصرية فليست سوى أفعال فردية، بحسب العودات، إذ إنّ الدولة العربية والإسلامية لم تفرّق بين مواطنيها من حيث مبادئها وثوابتها. وهنا، يجب على القارئ الامتثال وعدم إبداء دهشته على الجملة التالية التي هي نقيض للأولى حين يشير المقطع ذاته إلى أن الدولة الأموية «حرمت الفرس من حقوقهم السياسية ومعظم حقوقهم الاجتماعية».
لم يكتفِ كتاب «صورة العرب لدى الآخرين» بعدم تقديم أي جديد بشأن موضوعه الأساسي، واقتصاره على أفكار غير أصيلة، ونقلٍ حرفيّ لأفكار سابقة دون تدقيق، بل أسهم، قصدياً، في تكريس صورة سائدة أخرى ستجد مريدين لها بالتأكيد، وبخاصة إذا علمنا أنّ أهم مصادر الكتاب ومراجعه، في فصلََي الفرس والترك تحديداً، قناة «العربية»، وجريدة «الشرق الأوسط».
الأخبار