صفحات سوريةفايز ساره

حصار غوطة دمشق.. دمارها/ فايز سارة

 ربما يصعب للغاية تصور ما آلت إليه الأوضاع في غوطة دمشق بعد عامين ونصف العام على بدء الثورة السورية. ففي هذه المنطقة، تحكم قوات النظام سيطرتها وحصارها، تمنع مرور الأشخاص والسلع حتى البسيطة منها، والحصار الخانق يترافق مع عمليات قصف بالصواريخ والمدفعية والدبابات والطائرات الحربية والعمودية. إضافة إلى اشتباكات متواصلة تشتعل بشكل يومي في مناطق التماس بين قوات النظام وقوات الجيش الحر وقوات الثوار على أطراف الغوطة.

في المحصلة الإجمالية والعملية، فإن الجوع والفقر الشديد، يتزايدان بصورة مخيفة في منطقة الغوطة لدرجة أن حالات موت يومية يشهدها السكان هناك، بينهم أطفال ونساء. ولعل الأفظع من موت أهالي الغوطة، هو مجزرة استخدام الكيماوي الأخيرة، والتي أصابت آلاف الأشخاص، قتل منهم نحو ألفي شخص معظمهم من الأطفال والنساء.

واقع الغوطة في ظل الحصار والحرب المتواصلة عليها، ما هو إلا استمرار لسياسة القتل والدمار التي بدأها النظام مع انطلاق ثورة السوريين في آذار 2011. وكانت مدن وقرى الغوطة من أول ميادينها، حيث انضمت للثورة في الأيام الأولى، وقدمت الكثير من الشهداء والجرحى والمعتقلين في الموجات الأولى للتظاهر في دوما وحرستا كما في الكسوة وعربين وجوبر وداريا والمعظمية.

في تلك المناطق كما في قرى الغوطة الأخرى ومدنها، رفع المتظاهرون شعارات المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما توجهوا نحو مدينة دمشق للتظاهر فيها وإقامة الاعتصامات في ساحاتها العامة على نحو ما تكرر الأمر في نيسان من العام 2011 وبعده، مما أثار حنق السلطة، وجعلها توجه سلاحها نحو الغوطة مضاعفاً، ليس فقط بسبب التظاهر والاحتجاج الذي قام به الاهالي هناك، بل بسبب سعيهم إلى توسيع حدود تظاهرهم وصولاً إلى عمق أحياء وساحات دمشق على أمل إقامة اعتصامات شعبية تسقط النظام. الأمر الذي رفع فاتورة الحركات الشعبية في الغوطة، حيث تجاوز عدد شهداء ريف دمشق، التي تؤلف الغوطة مركزها الرئيس، شهداء أية محافظة سورية أخرى، والأمر كذلك أيضاً على صعيد الجرحى والمعتقلين والمفقودين. بل مجازر غوطة دمشق التي ارتكبتها قوات النظام وشبيحته، هي الأكثر عدداً في ريف دمشق.

إن روح العقاب والانتقام التي طبقتها قوات النظام ضد مدن الغوطة وقراها، لم تقتصر على الضحايا من البشر، بل امتدت في كل أنحاء الغوطة. فقد شملت عمليات القصف مدناً وقرى في الغوطة بصورة شبه كاملة على نحو ما حدث في داريا والمعضمية وعربين وحرستا وجوبر وبرزة والقابون وبيت سحم والسيدة زينب، ودمرت مئات آلاف البيوت والمحال التجارية والورش والمصانع، التي كانت تشكل مصدراً لعيش بعض أهالي الغوطة وجزء من سكان دمشق. كما تم تدمير المزارع، وقتل حيواناتها من أبقار وأغنام وغيرها، وردم الآبار وسرقة معدات الري، وقطع الاشجار وحرق المحاصيل، بحيث دمرت البنية الزراعية التي تشكل أهم مصادر عيش جزء كبير من سكان الغوطة.

وعملية تدمير الحياة، كانت استراتيجية معلنة للنظام في الغوطة، تناولت في فصولها السكان، والمؤسسات والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، والخدمات الصحية والتعليمية عبر عمليات مباشرة أساسها استخدام الأسلحة بما فيها السلاح الكيماوي. وقد أضيف إلى ذلك عملية حصار للغوطة عبر خطوط مسلحة ومحصنة، منع من خلالها مرور الأشخاص والبضائع والسلع اللازمة ليس من أجل تعويض الخسائر وإعادة بناء ما تم تدميره، بل منع وصول المواد الغذائية والمواد الطبية، بما يعنيه ذلك من تضييق فرص الحياة وجعلها شبه مستحيلة، ومن هنا أخذت تتوارد الأخبار والتقارير عن حالات موت السكان وخاصة الاطفال من جراء الجوع بفعل نقص المواد الغذائية وحليب الاطفال.

ولا يمكن فصل ما يجري في غوطة دمشق اليوم، عن مسلسل من السياسات، التي اتبعها النظام الحاكم في الغوطة منذ استلامه السلطة عام 1963، وخاصة بعد العام 1970، حيث طبقت سياسة تدمير شامل لبيئة الغوطة وأنماط حياة سكانها. إذ تم بالاستناد إلى هذه السياسات الاستيلاء على مساحات كبيرة من أراضي الغوطة، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية ومقار أمنية، كما جرى تحويل مناطق واسعة من الغوطة الى مناطق للسكن العشوائي بمباركة النظام القائم، وجرى إقامة مشاريع إسكان غير مبررة من النواحي التنظيمية والبيئة والاقتصادية في ظل سياسة فساد وإفساد قادها الجهاز الإداري والبيروقراطي والأمني للنظام من أجل منفعة بعض أركانه وأزلامه الذين راكموا بالفعل ثروات هائلة من منطقة الغوطة.

وقائع الغوطة بما فيها من قديم وراهن، تفسر أسباب العنف الدموي وحصار الموت الذين يتابعهما النظام نحو الغوطة وسكانها، لكن تلك الوقائع في الوقت نفسه، هي التي تفسر سرّ الصمود الهائل لأهاليها وشبانها في وجه النظام رغم كل ما أصاب قراها ومدنها وسكانها من خسائر بشرية ومن دمار يصعب حصره.

إن ما يحصل في الغوطة ومحيطها ربما كان الأبرز في صراع الإرادات السورية بين قوة الإكراه والإخضاع، ورغبات البشر بالحياة والحرية والعدالة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى