حضور وطني مستقل/ ميشيل كيلو
في واحدةٍ من جلسات هيئته العامة التي انعقدت، أخيراً، في إسطنبول، وسط ملابسات وتجاذبات متنوعة، بعضها سوري وبعضها الآخر إقليمي، قال أحد من درجوا على المطالبة باحترام ما يسمى “القرار الوطني المستقل”، إن هذا القرار ليس أكثر من شعار يجب التخلي عنه. وأثار القول استغراب من عرفوا في صاحبه أحد المدافعين الدائمين عن هذا القرار، والمتمسكّين به، الذين خاضوا معارك حقيقية من أجل امتلاكه وممارسته. فهل كان سبب التغير في موقفه ما بينته الأيام من ضمور هذا القرار وتلاشيه، أم يرجع إلى ما ترتّب على هذا القرار من عجزٍ لطالما افترض أنه نقيضه الذي جعله يبدو مثلوماً ومعدوماً، وبالتالي، شعارياً وغير واقعي، أم أن السبب يعود إلى حجم التدخلات العربية والإقليمية في الشأن السوري، وما حتّمته من تبعية هذا القرار لها التي قوّضت فرص استعادته أو استقلاله، بما أنتجته هذه العوامل، منفردةً ومجتمعةً، من نظرة سلبية إلى القرار الوطني السوري المستقل، دفعت أحد المدافعين عنه إلى مطالبة زملائه بالكف عن التمسك به، أو السعي إلى امتلاكه، بحجة أنه ليس غير شعارٍ يفتقر إلى أسس عملية، ووظائف حقيقية، يمكن أن تبدل الواقع أو تؤثر فيه. لذلك، ليس من الخسران في شيء التنازل عنه، ما دمنا لا نملك، نحن السوريين، من أمرنا شيئاً، أو ما دامت قضيتنا بين “أيد أمينة”، يغنينا دورها عن شعاراتٍ لا نفع منها توهمنا بأن لدينا القدرة على امتلاك قرار وطني سوري مستقل.
تؤمن قطاعات واسعة جداً من السوريين بأننا فقدنا، بعد بداية الثورة بفترة قصيرة، قرارنا الوطني، ما يعود إلى تدخلٍّ خارجيٍّ مكثف، استدعاه النظام الأسدي للقتال ضد شعبنا واحتلال بلادنا، أدخل إلى وطننا مقابلاً خارجياً مضاداً، فكان من الطبيعي أن تضفي التدخلات طابعاً إقليمياً ودولياً على الثورة، وأنْ تفقدها شيئاً فشيئاً طابعها المحلي، وتحولها إلى صراع قوى أضعفت، ثم قوّضت، أوراق السوريين جميعها، واحدة بعد أخرى، وضيعت بالنتيجة قرار الثورة الوطني المستقل، أو قلّصته إلى حدٍّ صار معه غير منظور أو مؤثر. وبالتالي، مجرد كلمات نكرّر المطالبة بمضمونها، بحكم عادةٍ قديمةٍ فات زمانها، نتوهم أنه كان عندنا قرار وطني مستقل، على الرغم من أنه كان نسبياً، وبالتالي غير مستقل بالضرورة، أو بصورةٍ جدية.
هناك في العالم فكر سياسي يقول إن القرار الوطني المستقل هو اليوم محض استحالة، بما أن الاستقلال نفسه صار نسبياً في ظل ترابط وتداخل مصالح الدول والأمم وسياساتها وإراداتها. لذلك، من العبث المطالبة، اليوم، بقرارٍ لطالما عبر عن السيادة بمعنى قديمٍ تخطّاه التطور الدولي، ارتبط بتشكل الدولة/ الأمة الذي تقادم ولم يعد معتمداً أو فاعلاً إلا في أضيق الحدود، الداخلية غالباً.
على الرغم من كل ما تقدم، كيف لا يكون هناك قرار وطني مستقل، إذا كانت هناك حقيقة وطنية لا شك فيها، تعبّر عن نفسها من خلال الخصوصيات اللصيقة بكل شعب، التي تجعله مستقلاً في تفرده ومصالحه وقراراته، يعني فقدها تبعيته لجهةٍ ما، وفقد قراره الوطني الذي قد لا يكون مستقلاً بصورةٍ مطلقة، لكن استقلال الشعب والوطن مستحيل، من دون توفر قدرٍ فاعلٍ من استقلاليته.
لم يفقد الشعب السوري حضوره الوطني، على الرغم مما تعرّض قراره المستقل له من مصادرة. هذا ما يجب أن يكون أساس موقفنا من قرارنا المستقل الذي علينا استعادته، بالحدود التي تجسد استقلالية شعبنا وخصوصية مصالحه، بعد أن عشنا، في السنوات الفائتة، النتائج الكارثية لضياعه، ولسيطرة قرارات الآخرين علينا.
العربي الجديد