حفيدات شهرزاد يحتفين بالسرد … والشعر يتوارى/ شوقي بزيع
لعلّ النصوص التي يكتبها الشعراء والروائيون وسائر المبدعين، هي التي تمسك بنفسها زمام مصائرها، وهي وحدها التي تواجه وطأة الزمن وتحدياته الصعبة، بعد أن يفقد المؤلفون قدرتهم على مساندة أعمالهم الأدبية والترويج لها بشتى الطرق. والحديث القديم عن موت الكاتب، ليس إلا الترجمة الأشد قسوة لرغبة القراء في طمس حيوات كتّابهم الأثيرين بغية الحصول على متعة الأدب الخالصة، التي لا يفسدها الحضور المباشر لهذا المؤلف أو ذاك. هكذا يبدو تواري الكاتب خلف نصوصه مشابهاً الى حدّ بعيد للمبدأ الروائي، الذي يفرض على المؤلف التواري خلف أبطال رواياته. وإذا كان يرغب في الظهور بشكل أو بآخر، فعليه أن يفعل ذلك بواسطة الشخصيات التي يخلقها، لا بشكل سافر ومباشر. على أن انسحاب الكاتب الى خارج النص، لا يعني بالضرورة انسحابه من وجدان القارئ واهتمامه، وهو الذي يتطلّع إليه بوصفه المبدع الخلاق والمثال الأعلى، وصاحب النجومية الباهرة في الكثير من الأحيان. لهذا السبب، راح الكثيرون يتعقّبون أخبار الكتاب والفنانين بشغف بالغ، ربما ليرضوا في داخلهم نزعة الفضول والتلصّص على حيوات الكبار الذين يتربعون على ذرى الإبداع، مثلما هي الحال مع كبار القادة والزعماء السياسيين والثوار والقابضين على دفة العالم. ولهذا السبب أيضاً، نرانا جميعاً متلهفين الى قراءة السير الشخصية التي يكتبها المؤلفون بأنفسهم، ويكشفون من خلالها عن الظهير الحسي والحياتي لتجربتهم الإبداعية، وعما خفي عن أعين القراء من شواغلهم وشؤون عيشهم. وكذلك الأمر بالنسبة الى الحوارات المهمة التي يجريها نقاد وإعلاميون ومثقّفون مختصون مع أدباء ومبدعين كبار حول تجاربهم الأدبية والحياتية، كما حدث مع ماركيز وسارتر وأراغون ونجيب محفوظ وكثر غيرهم. فالحوارات العميقة والصريحة تلك، تتيح للقارئ أن يقف على الجسر الفاصل، والموصل في الوقت ذاته، بين الحياة الفعلية للكتاب وبين نصوصهم المتألقة، بعيداً عن المتخيّل المحض الذي يرفع حياة المبدعين الى رتبة الأسطورة.
يتيح كتاب «نساء في الأدب/ حوارات مع عشرين كاتبة عالمية» للقارئ العربي، أن يقف على قصاصات متناثرة من سير وآراء بعض كاتبات العالم اللواتي تركن بصمات مؤثرة في الحقول المختلفة للإبداع الأدبي، كالرواية والقصة والمسرح والنقد والشعر. كأن الناقد والكاتب العراقي علي عبد الأمير صالح، معد الكتاب ومترجمه، قد رغب في تقديم صورة شبه بانورامية عن الأدب النسوي في القرن الفائت ومطالع القرن الحالي، منتصراً على الأرجح لأنوثة الكتابة التي تم طمسها خلال عصور متعاقبة من الهيمنة الذكورية على اللغة. والمترجم لا يخفي في تقديمه للعمل، أن هدفه من اقتصار الكتاب على الكاتبات الإناث ليس التمييز الجنوسي بين ما يكتبه الرجال والنساء، بقدر ما هو إظهار الكفاءة العالية للمرأة في ظل مناخ ملائم من الحرية والمساواة، إضافة الى الرد الضمني على «الجنود الظلاميين» الذين يفتكون بقيم العصر وحقوق البشر وإنجازات التنوير. ومن بين الكاتبات العشرين، اللواتي لم يجد المترجم سوى الإنترنت سبيلاً للعثور على حواراتهن المتفاوتة في تواريخها، ثمة أربع كاتبات من الحائزات على جوائز نوبل للآداب، وهن الرومانية – الألمانية هيرتا مولر، والبريطانية دوريس ليسنغ، والأميركية توني موريسون، والجنوب إفريقية نادين غورديمير. أما اختيار الكاتبات العربيات إيتيل عدنان وحنان الشيخ وعالية ممدوح، فهو، وفق المعد، ليس وليد الصدفة بل يهدف الى تحرير العقلية العربية من عقد النقص إزاء الغرب، وإثبات أهلية الكاتبات العربيات في الوقوف جنباً الى جنب مع كاتبات العالم المتفوّقات.
سيكون من الصعوبة بمكان، اختزال وتلخيص الآراء والتجارب وتفاصيل العيش التي تعيد الكاتبات سردها على المحاورين، ولكن ذلك لا يمنع من الوقوف عند بعض المحطات ونثارات السير التي تضيء العوالم السرية لتجارب بعضهن. فالرومانية مولر تركّز على معاناتها الرهيبة مع نظام شاوشيسكو المفرط في قمعيته وعسفه، وتصل في إجاباتها الى الاستنتاج بفقدان الأمل لا من الشيوعية فحسب، بل من الاشتراكية التي لن تعود اشتراكية عندما يتسلّط عليها هواء الحرية. ولكي تبعد عن نفسها شبهة البعد الإيديولوجي لمنحها الجائزة، تعمد الى التذكير بقول بيتر إنغلوند، عضو الأكاديمية السويدية، بأن مولر «تملك حقيقة قصة صالحة للروي عن عيشها في ظل نظام شمولي». لكن هذا القول لا يبدّد الهواجس المتعلّقة بمصداقية الجائزة، التي كثيراً ما منحت للبعض كمكافأة على مواقفهم السياسية وانشقاقهم عن المتون الصلبة لأنظمة الحكم الشمولي. تتحدّث الكاتبة البريطانية دوريس ليسنغ من جهتها، عن علاقتها المضطربة بالزمن وخوفها من الشيخوخة التي لا تسبّب تصلباً في شرايين الجسد فحسب، بل تدفع اللغة الى التصلّب وقلة الليونة. وهي مع ذلك توافق الزاعمين بأن السعادة الحقيقية لا يعيشها المرء إلإ بعد سن الكهولة، شرط ألا يقع الجسد فريسة الأمراض الخطيرة والمنهكة. على أن سعادة الشيخوخة متأتية من انعدام المراهنة على المستقبل والاستسلام الكامل لواقع الحال، وهي بالتالي سعادة اليائسين لا أكثر. أما الحوار مع الأميركية توني موريسون، فيقتصر على الشأن الاجتماعي والإنساني المتعلّق بالعنصرية والتمييز بين البشر، وهو ما أولته الكاتبة العناية الأكبر في معظم مؤلفاتها. لكن أبرز ما قالته يتمثل في رؤيتها الى السود بوصفهم صمام الأمان الذي منع أميركا من التفتت والبلقنة، لأن بيض الولايات المتحدة لم يجمعوا على قضية «وطنية» واحدة كما أجمعوا على اضطهاد السود وحرمانهم من حقّهم الإنساني بالعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص مع الآخرين.
الكاتبة الجنوب إفريقية نادين غورديمير تركز من جهتها، على اعتبار الكتابة سفراً واكتشافاً للمجهول ومفاجأة لذات الكاتب قبل مفاجأة الآخرين. وعن التصورات الأولية لشخصيات رواياتها، تقول إن كل رواية كتبتها كانت بمثابة صوت داخلي تختلف نبرته عن أصوات الأعمال الأخرى. وهي إذ تبدي إعجاباً عالياً بروايات ماركيز، تقول إن منسوب الحرية في السرد أعلى منه في أي فن آخر، الى حدّ «أنني في قصصي أكتب كما لو كنت ميتة. أريد أن أقول كل شيء. أريد أن أقول كل ما أعرفه. الكاتبة التشيلية المعروفة إيزابيل أليندي تركّز على روايتها «بولا» التي كتبت معظمها في غرفة العناية الفائقة وهي تراقب الأنفاس الأخيرة لابنتها الواقعة في الغيبوبة إثر حادثة سير مروّعة. وهي استخدمت الحادثة كذريعة لاستعادة تاريخ بلادها المعذبة، إضافة الى تاريخها الشخصي والعائلي. وترى صاحبة «بيت الأرواح» من جهة أخرى، أن الكتابة «أشبه بالتمرين الرياضي. فالكاتب يحتاج الى الكتابة بشكل يومي حتى لو أن جزءاً مما يكتبه لا يتم استخدامه». ثمة أيضاً حوار شيّق وممتع مع الكاتبة الإسبانية – الفرنسية أناييس نن التي عرفت بجرأتها ومغامراتها العاطفية المختلفة مع كتاب معروفين، لم يكن هنري ميلر سوى واحد منهم.
حسناً فعل علي صالح باختياره ثلاث كاتبات عربيات لكي يقفن جنباً الى جنب مع كاتبات العالم الأخريات، بمعزل عن عقد النقص التاريخية إزاء الغرب. فإذا كان من حكم على القيمة الحقيقية للمبدعين، فإن هذا الحكم سيتولاه الزمن بميزانه النهائي الذي لا علاقة له بالجنسيات والأعراق والفروقات المختلفة بين البشر. وحيث تعتبر حنان الشيخ أن الهدف من الكتابة ليس المتعة المجردة وحدها، بل أيضاً التواصل مع الآخرين وتحفيز البشر على تجديد أنفسهم وموروثهم التقليدي، تركزعالية ممدوح على معاناة الكاتب، والكاتبة على وجه الخصوص، في مجتمعات الاستبداد والقمع كما هي حال العراق وغيره من بلاد العرب، معتبرة أن كل كاتب مبدع يعيش داخل منفاه الطوعي أو القسري، بشكل أو بآخر. كما أن فكرة المنفى والهوية المركبة تحتل المساحة الأوسع من الحوار مع الشاعرة اللبنانية – الأميركية إيتيل عدنان، وهي الشاعرة الوحيدة التي تم اختيارها في الكتاب، في حين تتوزّع الأسماء الأخرى بين فنون السرد المختلفة. وكان يمكن للمترجم أن يدرأ هذا الخلل، بخاصة وأن العالم يزخر بشاعرات رائعات من طراز غابرييلا ميسترال وسيلفيا بلاث وشيمبورسكا وأنّا أخماتوفا وعشرات غيرهن.
الحياة