حقوق البطريرك
حسام عيتاني
يمارس البطريرك بشارة الراعي بحرية كاملة ذلك التقليد اللبناني الذي يتيح ممارسة رجل الدين للسياسة كأي محترف. يتحصن الراعي وراء تاريخ طويل من التداخل بين الشأنين، الطائفي والسياسي في لبنان.
ومنذ التأسيس الثاني (إذا جاز القول) للبطريركية المارونية، بعد المجمع اللبناني، عام 1736، أصبح رأس الكنيسة المارونية شخصية شديدة الحضور في المشهد السياسي والاجتماعي في جبل لبنان، ثم كل الكيانات السياسية التي نشأت على هذه الرقعة من الأرض.
وعلى خطاه سارت الطوائف الأخرى مقتدية بما أرساه البطريرك من تقاليد في إدارة الخلافات داخل الطائفة المعنية أو في تنظيم العلاقات مع السلطات الدنيوية والطوائف الأخرى. أهمية المجمع المذكور تنبع من وضعه أسس العمل الداخلي في المؤسسة الكنسية المارونية لجعلها أكثر مواءمة مع تعاليم وطقوس الكنيسة الكاثوليكية في روما، من جهة، ولرسم الحدود التي يمكن للأعيان الموارنة المحليين فرض نفوذهم داخل الكنيسة من ناحية ثانية. لم تكن السلطات التركية حاضرة في فضاء الاهتمامات هذا. بل أن الآخر كان يمثله «أمراء الجبل» الدروز.
على هذه الخلفية أقيمت الكنيسة المارونية في نشأتها الثانية التي مهد لها البطريرك اسطفان الدويهي قبل نصف قرن تقريباً من «المجمع اللبناني». ومنذ ذلك الحين جرت مياه كثيرة تحت الجسور وظهرت طوائف أخرى تطالب بالاعتراف بها كهويات وقوميات وكيانات سياسية وثقافية بل «حضارية»، متباينة مستويات الاستقلال.
يأتي البطريرك الراعي اليوم من هذه الخلفية. فهو لا يخترع شيئاً ولا يأتي ببدعة عندما ينحاز إلى جانب سياسي معين. ويمكن النظر إلى تاريخ الكنيسة المارونية في الأعوام الأربعين الماضية (على الأقل) على انه تاريخ تبدل الانحيازات، وفق تبدل موازين القوى داخل الطائفة، أولاً، وفي لبنان والمنطقة ثانياً.
لكن ما يقوم به البطريرك في هذه المرحلة، يتسم بحساسية مضاعفة. فإلى جانب حقه البديهي (وفق منظومة البداهات اللبنانية وهي غير بديهية في باقي العالم)، في الإدلاء بآرائه السياسية وتعزيز موقف الحلفاء الذين اختار الوقوف في صفهم، يجيء كلامه في وقت يعاد فيه النظر في علاقات الجماعات الطائفية في المنطقة، سواء ضمن فكرة «خوف الأقليات» أو «تحالفها».
أقل ما يقال في مجمل ما قاله وفعله الراعي منذ رحلته الباريسية في وقت سابق من أيلول (سبتمبر) الحالي أنه غير حصيف. ليس لصبه الماء في طاحونة نظام يعتمد العنف الطائفي لاستدراج عنف مقابل، وحسب، بل لأنه يوحي أن الموارنة في لبنان، قد حسموا أمرهم واختاروا التحالف مع الشيعة في وجه السنّة.
حاصل جمع الاستنتاجين، وسيان هنا أكانا مصيبين أم خاطئين، سيسفران عن كارثة تحيق بالموارنة والمسيحيين عموماً، قبل غيرهم. فالوقوف في وجه الثورات العربية في مدها الذي لن يتراجع أمام مخاوف طائفة صغيرة في بلد صغير مثل لبنان، وتوفير مساندة معنوية وسياسية لحكم لا يكشف تصاعد دمويته وشراسته سوى عن تعمق أزمته، وصفة أكيدة لجلب غضب قد لا يمكن ضبطه بعد حصول التغيير.
والحكمة، وإن كانت مما تتغنى به كل القيادات الطائفية – الدينية، ليست عملة رائجة هذه الأيام. واختيار الجهة التي يقف المرء فيها من الخندق تعنيه هو أولاً. لكن يمكن الزعم أن تاريخ شعوب المشرق العربي، يُرسم في هذه اللحظات والأيام وأن من يعاند التاريخ سيزاح جانباً. بهذه البساطة.
الحياة