حكايات النزوح ونفحات أنثوية
نبراس شحيّد
تشتمّ رائحة اللحم المحروق من كلماتها. لحم زوجها المتآكل يسكن ظلّ المرأة، يطاردك أينما ذَهَبْتَ. لحمٌ أسود، متفحم، يطفح من العينين، من الأذنين، من المنخرين، ويختلط بذكرياتِ عزاء الابن الذي لم يمت. قالوا لأم سامر: ابنك مات في المعتقل شهيداً من التعذيب! أقاموا له صلاة الغائب وعزاءً يليق بالأبطال. زوجة الابن لبست الأسود، لتصير زوجة الشهيد، وتكابر على دموعها. إلا أن الابن في صباح جُمُعَةٍ ممطرة، طرق باب منزله بعد خمسة أشهرٍ من الغياب وعاد! لم يمت سامر في المعتقل، لكنه رجع إلى الدار بعدما أكلت السياط جسده. زوجها أيضاً لم يمت! أعادوه إليها من المعتقل في المرة الأولى، وأصيب في المرة الثانية، لكنه أيضاً لم يمت. كان واقفاً في صباح إحدى الجُمع يترقب اقتحام بلدته من الشرفة. رصاصةٌ عمياء أصابت عمود الكهرباء المقابل للمنزل، فانقطع السلك ليرتطم بالرجل فتصعقه الكهرباء ويسقط من الطبقة الثانية. لم يمت الرجل! لكن جسده تهشّم وتفحّم. تآكل لحمه والتصقت يداه بجذعه. لم يمت الرجل، لكن حياته صارت أقسى من الموت، على الرغم من محاولات الأطباء الحثيثة لترميم ما يستطيعون من اللحم المهترئ.
أجسادٌ تطفح من عينيها محروقةً ومهانة، تحملها أم سامر ذكرياتٍ تعود بها إلى مكان طفولتها، إلى مخيم شاتيلا. في بيروت، أثناء الاجتياح، أصيبت المرأة بشظيّة اسرائيلية أدّت إلى شلل قدمها اليمنى. أم سامر نازحةٌ من فلسطين، انجبت من زوجها الأول ولدين اثنين قبل أن يختفي الرجل ليصير من عداد مفقودي حرب لبنان. تزوّجت مرة أخرى من رجلٍ سوري بعد خمسة أعوام، وذهبت لتعيش معه في بلدته، ولتنجب خمسة أطفال، ربّتهم من دمع العين على إيقاع ماكينة الخياطة. وها هي الآن تعود مجدداً إلى مخيم شاتيلا بعدما اقتحم الجنود منزلها في ريف دمشق، وكادوا يقتلون ابنها الصغير. محمد أيضاً لم يمت لأن الضابط المشرف على اقتحام الحي ترأّف بالمرأة. عادت إلى شاتيلا مع ابنها الصغير وابنتها رغد التي تعمل في الحلاقة، على الرغم من إعاقتها الكبيرة! عادت أم سامر نازحةً كما كانت، ليحضنها نازحون آخرون، منهم وسام، شابٌ رائعٌ وصديقٌ عزيز، رافق المرأة في شاتيلا، وحاول أن يساندها في معركتها ضد الموت، إلا أن جهوده أخفقت في شراء جهازٍ يساعدها على المشي. لكن أمّ سامر كان لها رأيٌ آخر: “لا تشترِ لي قدماً جديدةً، بل اشترِ لي ماكينة خياطة أعيل بها أولادي يا وسام!”. جسدُ رجلٍ متفحّم ينبعث من جسد امرأة مشلولة، ليصير الجسد ذاكرةً تقاوم الموت، وفيه تمتزج شظية اسرائيلية برصاصةٍ سورية، هنا في الجسد- الذاكرة. هنا الطائرات الخرقاء تقصف غزّة ودمشق، وتنهش الجسدين، والمرأة تبحث عن إيقاع ماكينة الخياطة، هنا من شاتيلا القديمة، لتقاوم إيقاع القذائف.
هنا في شاتيلا ينصهر الجرحان، ويردد المتظاهرون في حلب: “لبيك، لبيك، لبيك يا أقصى”. الجمعة الماضية، قبل التظاهرة المنددة بالعدوان الاسرائيلي على غزة، كانت أم أحمد في شاتيلا تشتري فرشاً للأولاد السوريين النائمين على الأرض. أم أحمد، فلسطينية ذاقت الويل في معتقلات النظام السوري قبل أن تعود إلى بيروت منذ بضع سنوات. التقيتها والدموع في عينيها في المستشفى حين كانت تُعنى بجريحٍ سوري مهشّم الورك. على امتداد نهارين وليلتين، ظلّت تطرق الأبواب لتجمع ما يلزم من نقود لإجراء العملية. أم أحمد أمٌّ لسوريي المخيمات في بيروت، يعرفونها كلهم، خصوصاً النسوة منهم، فهي التي تعتني بهن وقت الولادة. هنا في المخيمات الفلسطينية يعمل سوريون معدمون، هنا أيضاً يعمل ناشطون، هنا ينامون مكدّسين في بيوتٍ لا تعرف نور الشمس. هنا في المخيمات ابتدأت مبادراتٌ صغيرة لجمع بعض الألبسة المستعملة، وهنا صارت كبيرة حيث لا معين إلا الأخوّة ووحدة الجرح. الأسبوع الماضي، افترشت امرأةٌ سورية الشارع مع بناتها لأنها لا تملك نقوداً. الأسبوع الماضي، قام ناشطون فقراء بإيوائهن وجمع ما يلزم من نقود. الأسبوع نفسه أعطى أحدهم بعض الأصدقاء أربع فرشٍ كي لا يناموا على البلاط المتعفّن، والليلة نفسها أعطى الأصدقاء الفرش لمن هم أكثر احتياجاً وناموا على الأرض! هنا تتناقل الجدران قصصاً بلون الدم. هنا يحلم الفلسطينيون بوطن مغتصب، وكذلك السوريون. أم أحمد، أم سامر، أم محمد، تختلط الأسماء في رأسي لتتماهى مع أم سعد الكنفانية: “أم سعد، المرأة التي عاشت مع أهلي في الغبسية سنوات لا يحصيها العدّ، والتي عاشت، بعد، في مخيمات التمزق سنوات لا قبل لأحد بحملها على كتفيه، لا تزال تأتي إلى دارنا كل يوم ثلثاء: تنظر إلى الأشياء شاعرةً حتى أعماقها بحصتها فيها، تنظر إليَّ كما إلى إبنها، تفتح امام أذني قصة تعاستها وقصة فرحها وقصة تعبها، لكنها أبداً لا تشكو” (غسان كنفاني، “أم سعد”). هنا في المخيم، جباهٌ مرفوعة، نساءٌ متعباتٌ، وأولادٌ يلعبون في شوارع غصّت بالقمامة. نازحون قدماء ونازحون جدد. هنا في المخيّم، لا يزال صوت أم سعد حيّاً: “برعمت الدالية يا ابن العم برعمت”، هنا “حيث غرست (أم سعد) ـ منذ زمن بدا لي في تلك اللحظة سحيق البعد – تلك العودة البنيّة اليابسة التي حملتها إليَّ ذات صباح”، هنا “تنظر (أم سعد) إلى رأس أخضر كان يشقّ التراب بعنفوان له صوت”. هنا في شاتيلا حيث تفوح الكلمات برائحة اللحم المحروق، اللحم المهان، اللحم المشلول. وهنا أيضاً يفوح الحنين برائحة الوطن…
(راهب يسوعي سوري)
النهار