حكايات سورية لا تنتهي/ علا عباس
بغض النظر عن التصريحات السياسية، وبغض النظر عما تتداوله وسائل الإعلام، وبغض النظر عما ستنتهي إليه الحرب السورية، ومتى ستنتهي، في سورية اليوم نبع من الحكايات الإنسانية يتفجر في كل لحظةٍ عن مآسٍ وبطولات، عن قصص بطولة، وقصص صمود، حكايات عن حب غرائبي تحت القصف والبراميل، وانفصال غير مفهوم في ظروف مختلفة. قصص هروب وأشكال مختلفة من الموت، تمسّك بالحياة وتحايل على أقسى ما يمكن أن تقدّمه.
في تل البقعة المكلومة من العالم، هناك بشر مستمرون بالحياة، ولا بد أنهم يفعلون، في كل لحظة، ما يصلح ليكون درساً لبقية النوع البشري في معنى التمسّك بالحياة، ومعنى الصمود والتشبث بالأمل، وهي قصص لو قدّر لها أن تخرج إلى النور يوماً ستكون سفراً عظيماً في تاريخ الإنسانية، فما نتابعه على وسائل الإعلام، نحن البعيدون، هو القشرة الرقيقة الخارجية لما يجري فعلاً على الأرض. وبالتأكيد، حدثٌ من هذا النوع سيحتوي على قصص تستحق أن تروى، وأظنها تساوي عدد السوريون الذين بقوا في سورية مضروباً بعدد الأيام التي قضوها في هذه الحرب، فلكل يومٍ حكايته، ولكل يوم شروطه الخاصة وبطولته الخاصة.
تتسرب، بين حين وآخر، حكاية عن عائلة أو امرأة أو رجل يعيش في حلب، أو في دير الزور أو درعا، ينقلها أحد ما عايشها أو عايش شخوصها، أو التقى بهم في مكانٍ ما، وسرعان ما نتلقفها، نحن الجالسون بأمان في الخارج، لنعيد روايتها ونكرّرها ونكرّرها، محاولين أن نتمثل هؤلاء الأبطال الطبيعيين الذين يرسمون، بصمودهم، حكاية معجزة بشرية قلّ نظيرها، ونحاول أن نعوّض غيابنا بتكرار حكاياتهم، والتأثر بها والبكاء عليها.
فمن امرأة عجوز تدخل وتخرج من المناطق المحاصرة في الغوطة، متجاوزةً كل أنواع الحواجز وكل طرق الحصار، تدور في أحياء دمشق بضعة أيام، تستجدي الباعة ما يتبقى لديهم من طعام، تنشره في إحدى الحدائق العامة تحت شمس الصيف، وتنظره لينشف فيخفّ وزنه، ويسهل حمله، وتتكثف قيمته الغذائية، ثم تأخذ طريق عودتها في الليل عبر الطرق الترابية المهجورة والمهدّدة بالمخاطر، لتنقل ما تستطيع حمله من الطعام إلى المحاصرين في الداخل، جاعلةً من حصارهم أقلّ وطأة، ليس بالطعام الذي تحمله، بل بالإرادة التي تعينها على فعل ما تفعل.
ومن تلك الطفلة التي نزحت من تحت حكم “داعش” في دير الزور، بعد أن فقدت عائلتها، والتحقت، أخيراً، بالمدرسة، لتعوّض كل صفين بسنة واحدة، وكأنها تريد أن تقول للعالم: أنا طفلة، ومكاني الطبيعي هو المدرسة، ومن حقهي أن أتعلم، وأن أبني مستقبلي كبقية البشر، وسأحصل على حقي، مهما بدت الظروف غريبة عليكم. إلى الطفلة الأخرى التي لم تبلغ العاشرة بعد، تقف على باب أحد الأفران ساعتين لتحصل على كمية من الخبز، تبيعه للمستعجلين الذين لا وقت لديهم للانتظار، وتعيد الكرة مرّات عديدة في اليوم. وفي النهاية، يتبين أنها تعيل أباً خرج من ريف حلب مشلولاً بشظيةٍ أصابت عموده الفقري، بعد أن فقد أبناؤه الشبان الثلاثة وأمهم في قصف سابق.
إلى أولئك الشباب الذين يعيشون تحت حكم “داعش”، أو تحت حكم مخابرت النظام. ومع ذلك، ما زالوا يخرجون تحت جنح الظلام، ليقولوا كلمتهم، ويعبروا عن موقفهم بعبارةٍ على الجدار، أو بمنشور شجاع، يعرفون أنه لم يعد قادراً على تغيير المشهد، لكنهم يعرّضون حياتهم للخطر، لكي يقولوا كلمتهم، ولكيلا يقال عنهم، يوماً، إنهم ظلوا صامتين.
هي حكاياتٌ سخيفة ونماذج متكرّرة تلك التي أرويها أمثلة. لكن، بالتأكيد هناك آلاف الحكايا التي تجري كل يوم، ولا يسمع بها أحد، ولا تصل إلى وسائل الإعلام، وربما كان أحد أكبر الأخطار التي يخبئها المستقبل أن تضيع هذه الحكايات، ولا تجد من يدوّنها ويحفظها من الضياع، فالبشرية ستحتاج كل تفصيل من تفاصيل الحكاية السورية، لكي تعرف، في المستقبل، كيف تصوغ حياتها ومنظومتها الأخلاقية، وكي تربي أجيالها اللاحقة على معنى الصمود والتكيف والتشبث بالحياة، فما عاناه الشعب السوري لم يعانيه شعبٌ في العالم، وقدرته على الصمود كل هذا الوقت هو الدرس الذي يجب أن تتعلمه البشرية، ليس من الشعارات والأحداث السياسية، بل من الحكايات اليومية للناس.
العربي الجديد