بمثابة تحية إلى نساء سوريةصفحات مميزةفلورنس غزلان

حكايات من واقع الحزن السوري:فلورنس غزلان

فلورنس غزلان307039_10151183369372656_313452544_n

 

1 ــ

تشابكت أصابعنا صدفة…لحظة جمعنا الخوف في مكان ضيق وصغير، كلانا يكاد قلبه يخرج من صدره معتقداً أن طرقاته مسموعة من الجميع…الهمهمات والرجفات لها نكهة الخطر…الأصوات المرعبة تسقط آثارها من حولنا…لكن أصابعنا أو أعصابها تشد بقوة يشحذها كلاً منا من الآخر، أو من توحدنا بمواجهة الخطر…لم يصمت الزلزال ولا توقفت زخات الرصاص، أو شهيق القبو وزفيره المرتفع والمنخفض طرداً مع قوة الإنفجار وقربه…كنت أتمنى أن أعود أصغر ، أن أغوص في الأرض أكثر…لكني لاأود الذهاب وحيدة…أريدك معي…لا لكونك حبيب أو قريب أو صديق، بل حاجة ملحة…لاتتركني أغيب في الأرض دون أن آخذ معي قطعة معنى لوجودي في الخارج..تعال …أشده فيحاول تهدئتي، لأن دور الرجولة يفرض نفسه على الموقف، رغم ارتجافة شفتيه وإصتكاك أسنانه يجاهد أن يتحول لماء تطفيء لهيب رعبي، لكن جفاف الكلمات المتقطعة الخارجة بالكاد من فمه توحي بأن صرخاته مربوطة بحباله الصوتية ولا يرغب بإنفراط عقدها …فتفرط رجولته…ومالبث أن نفض يده بعنف وغضبٍ من يدي مستنفراً روح المغامرة الشرقية اللاعقلانية…وأطلق ساقيه لريح الخارج…كل من آوى للقبو تجمدت محاجرهم..وحدي انسحبت خلفه… أطللت رأسي منادية …لم يلو على شيء..كان يعدو ويعدو ثم يسقط…لم ينهض ولم أتحرك..فقط أيقنت حينها ، أنه يرغب بالذهاب وحيداً….لايحتاجني
2 ــ
سألتها عن الوقت في معركة الصمت المطبق على حجرة تضم ثلاثة زملاء في صالة عمل…رفعت رأسها كمن انسحب من غيبوبة طويلة وقرأت ساعتها…إنها أيام ” الإكتشاف والانكشاف”..رغم أننا نعيش داخل أسوار العمل منذ أعوام، لكن الكذب والنفاق والحجج الجاهزة للتعمية والتغطية سلاح الجميع في إبعاد شبح ” الشذوذ” عن قاعدة التواطؤ أو الإنتماء للنظام…لا أحد يشدو إلا بتغريدات” وطنية ممانِعة” تتناسب مع صاحب الصورة المعلقة في صدر الصالة فوق رأس المسؤول الأكبر بيننا..
كان شبح ماضِي السياسي يلاحقني…رغم كل مابَرعت في إظهاره من سعي وراء اللقمة فقط ..ومن تطليق مبرم للسياسة، متجنباً الخوض في أي حوار عن الأحداث والمناسبات الوطنية…لكن ماجرى في تونس ثم مصر وليبيا من بعدها…حرك لساني في جحر فمي واستعدت القدرة على النطق بما يُغضب الأبواب العليا …وما أكثرها !…حاولت جس النبض في البداية ،فووجهت بصدود واستنكار..لأننا ” نعيش في البلد الأكثر استقراراً وأمناً والتحاماً بالرئاسة الميمونة”!، عدت للإنكماش أخفي عياراتي النارية، التي تخرج رغم أنفي بين فينة وأخرى…تعيد على مسامع الزملاء جملة قرأتها بهذه الصحيفة وتصريح على لسان مسؤول في مجلة ثانية…تحمل إشارات ودلالات وأتساءل حولها عَلَّ أحدهم يجيبني أو يوافقني!…لكن الآذان ظلت مُصَمَّغة… إلى أن وقعت أحداث أطفال درعا، فاشتعلتُ ألعن انعدام ” الأخلاق والإنسانية والقانون”، وأستنكر التعامل مع الأطفال بكل هذه الوحشية وكأنهم من البالغين المخضرمين في السياسة….
أخرستني نظرات المسؤول حين رفع رأسه عن أوراق لم تتغير من أيام وقال: المسؤول هم أولياءهم، الطفل لاينطق إلا بما يسمع في أسرته ومحيطه…قلت: ألا يشاهد أولادك التلفاز وماتقوله القنوات العربية.ياسيدي؟ أجاب: بلى…لكني لاأسمح لهم إلا بمتابعة القنوات ” الوطنية”!…هبطت في مقعدي صامتاً..حدجتني زميلتي بنظرة ” إخرس”…تحذيرية متواطئة…انتهزَت لحظة خروج المسؤول لحاجة ما
نهضَت من مقعدها واقتربت هامسة: احذر…لاتنس أنه عضو عامل في الحزب…سيخرب بيتك…قلت: وأنتِ …ألست عضوة عاملة أيضاً؟…أجابت: …لقد سجلت اسمي مُجبرة …فقط كي أحصل على وظيفتي هذه، وأختلف عنه بأني لاأضر زملائي ولا غيرهم، كما أني متعاطفة مع مايجري…وآن الأوان أن ندفن صمتنا…صافحتها بغبطة …واتفقنا على المشاركة في المظاهرة القادمة..

3 ــ
دون تردد وقف الطفل أمام أمه وطأطأ رأسه معتذراً: ..آسف يا أماه أقسم برأسك أني فعلتها اليوم للمرة الأولى في حياتي…لقد انتظرت طويلاً أمام الفرن الآلي في العباسية ” حي من أحياء درعا البلد”، وعندما اقترب دوري…لم يبق أمام الخباز أي رغيف من الخبز…لاأريد العودة إليك وإلى أشقائي دون مايسد الرمق…مررت أمام حانوت ” أبو محمود” … الذي اعتاد بيع الخبز بأسعار خيالية…لايمكنني أن أدفع ” 400″ ليرة ثمن الربطة…خطفتها ولذت بالفرار… سامحيني يا أمي…كان بإمكانه أن يقدمها لي ولغيري بسعر معقول…فكيف يحصل عليها مَن يتاجر ويربح في زمن الحرب ، بينما نموت جوعاً ، أو نرى الموت يقترب منا .. يحوم فوق رؤوسنا مقابل عدة أرغفة …سامحيني يامَن علمتني أن السرقة حرام وعيب…لكن أبا محمود هو الحرامي..هو من يسرق حصتنا من الخبز…فهل تعتقدين أن الله سيعاقبني وينجيه؟ ! كيف يكون الله مع الحرامي الحقيقي وليس مع من هم مثلي؟ أليس الله هو العادل والرحيم؟، هل يرضى الرب أن أموت وأخوتي جوعاً ، بينما يعود أبو محمود لبيته وجيوبه عامرة بالنقود ومائدته حافلة بما لذ وطاب؟!
أصيبت الأم بسكتة صوتية ، حشرجت واختنقت الكلمات في حنجرتها… سبقتها دموعها…لم تعرف كيف توضح له أنه أخطأ…لكنها أمام من غُسِلَت ضمائرهم …لاتجد الكلمة المناسبة..وأمام انعدام العدالة الأرضية والسماوية…غابت عنها القدرة على التعبير..وفي النهاية نطقت هامسة :….في المرة المقبلة …أنا من سيذهب لشراء الخبز.
4 ــ
” يافاطمة صار لك ولد وخمس بنات..وبهذا لن تكوني إلا راضية وفخورة بين نساء الحي…صار لك ولد بهي الطلعة بشهادة بنات الحي وشهادة نسائه..صار لك ولد كَبُرَ قبل أقرانه…عيونه تلمع بالذكاء والحصافة..يحسدك عليه الجميع….بارع في الرياضة كما في الرياضيات…ماهر في الصيد ، خجول في غمز الحسناوات، تقمص روح المحبة وروح النخوة…لم يبخل عن تقديم العون لكل من حوله..لاتخافي عليه إلى حد منعه عن العطاء والايثار يافاطمة…لاتفقديه بهذيان أمومتك الامتلاكية..قفي معه، مع نفسك، مع أخواته المنتظرات فرحهن به ..كُفي عن تصور الذئاب في كل درب يسلكه…فالحياة ملأى بهم..لايحميه إلا قوته الصادقة أمام جبروت الخطأ والفساد، لاتلحقي به أينما ذهب ، ولاتبحثي عنه كلما طالت غيبته، فقد غدا رجلاً مختلفاً، ينصت رهط الأصدقاء لحديثه العذب المقنع…يتعب ليريحك، يشقى ليسعدنا…شهوته للكتب تغنيه ولا تفنيه”…
كل هذا تسمعه فاطمة يومياً من زوجها…لكن قلبها لايتوقف عن الخوف المزروع في جنبات حياة شَبوا عليها…فالطاغوت الكبير لايسمح لفصيح وناطق بالحق مثل ولدها بالتمادي…لايسمح له أن يفصل بين الوطن وبينه…وقفت فاطمة أمام ابنها ورجته ألا يذهب..قلبها متوجس هذه المرة، يحس بالخطر يحوم حوله فقد لدغتها يد المُخبر” أبو سالم” منذ عام..وكادت تفقد وحيدها تحت السياط في قبو المخابرات…اليوم امتلأت البلد بأمثال أبو سالم…صرنا نشهد مرورهم المسلح دون وجل أو تخفي…لم تعد المخابرات وحدها من يقهرنا ويعتصر جهدنا ويقض مضاجع أيامنا، فأحلامنا تحولت لكوابيس نهارية وليلية..تحس فاطمة أنها أمام عنكبوت هائل أسطوري يبني شبكاته حول الأحياء لصيد الشباب…ووحيدها لايتوقف عن الإصرار على الإعداد للمظاهرات وحشد كل الطاقات الشبابية لتطلق كلمتها المحبوسة في صدرها منذ عقود..يقول لها: ..لاتحزني يا أمي…أنا لاأفعل شيئاً سوى التظاهر…أنا لاأحمل عصا أو خنجر…أحمل صوتي المحبوس وأطلق له العنان..لقد علمنا الأطفال كيف نرسم درب الحرية..أتريدنني أن أكون أقل منهم؟..هل ربيتني لأكون جباناً؟..تصمت وتخجل ولا تتوانى عن الدعاء له والاكثار من التوصيات..ولا عن اللحاق به حتى باب الدار…تعد الساعات والدقائق..وكلما سمعت أزيزاً أو قصفاً..لاذت بزاويتها الصغيرة…ونزفت دمعاً غزيراً… كانت تتدرع بالصلوات وتسأل رب الأنبياء جميعاً ..تدعوهم بالاسم….لأنها تخشى أن يكون أحدهم أكثر حظوة عند الله من الآخر….معتقدة أنهم سيحموا وحيدها….في كل مرة كان يعود سالماً…ويروي مناوراته مع الضباع المفترسة والمتعطشة للدماء…يروي وبألم وغضب حكاية رفاقه الذين سقطوا…يروي إصراره على درب التظاهر وحديثه عن قدرة الإعلام على فضح الأعمال المشينة لمايفعله الشبيحة وأجهزة الأمن..يقارن بين مايجري اليوم وماسمعه من والده عن مذبحة حماة..ويؤكد لأمه:…أن هذه المرة ستكون مختلفة …لأن العالم يعرف، ينشر ويطلع، ولم تعد ممارسات القتل خافية أو قابلة للإخفاء…سيكون نصرنا قاب قوسين أو أدنى!…
رغم كل مايحمله لها من إطمئنان ورغم كل ماينقله لها من عناد وتصميم على التظاهر كوسيلة سلمية للخلاص…كانت ترى أن أعداد الضحايا تتزايد ونوعية القتل لم تعد بالرصاص وحده ولا بالاعتقال والتعذيب…النوم صار طارئاً على كل السكان في المدينة بكاملها..الغذاء في تناقص والغلاء في ارتفاع مسعور…من أين وكيف يمكن لقلبها أن يشع بالأمان؟، أو أن يرى حتمية النهاية ” القريبة”!، التي يؤمن بها ولدها؟…لماذا لاترى الأمور بمنظاره؟عصافير قلبها تطير في كل الاتجاهات..تزور كل المدن والقرى وتعبر كل المحطات، لاأحد فيها يؤكد خبر النهاية أو قربها….الطرقات تحولت لأكوام من الحجارة والقاذورات ، التي لاتجد عمال نظافة…البيوت بدأت تقفر من ساكنيها…وأم حامد تتمسك بكل عمد وزاوية..جاءها زوار الليل بغتة أحست أن مريم العذراء كانت بجانبها حين استغاثت بها كأم..انتظروا عودة ابنها لكنه لم يأتِ تلك الليلة ولا في الليلة السابقة…أن يكون غائباً وسالماً أخف ألماً من أن يقع بأيديهم أو يغيب للأبد وكلا الاحتمالين له نهاية واحدة ــ على الأغلب ــ انتظرت…وانتظرت..كانت الحركة ممنوعة والقناصة ترقب كل خَيال..بعد يومين ..طلبوا منها ومن زوجها الحضور إلى المسجد…حيث المشفى الميداني…انحبس الدمع وأملت أن تراه جريحاً…لكنهم طلبوا إليها أن تزغرد…فابنها حامد ذهب للجنة…راح شهيداً!!!…
صاحت أم حامد: أريده حياً وجباناً…أريده حياً ومتخفياً بثوب امرأة…وماذا يعني أن يكون في بيتي شهيد؟ ماذا يعني أن يختار الله ابني الوحيد لقربه؟ كيف تكرمون الموت، كيف تقدسون الموت؟ ثم..كيف قتلوا من حمل لافتة تقول …(لا للاستبداد …الشعب السوري واحد.)؟.من قتل ابني؟ …سأنتقم وأنقلب لهند بنت عتبة..فقط قولوا لي من هو قاتل ابني؟

فلورنس غزلان ــ باريس…منذ بدأ وجه التاريخ يتلَّون.”

اللوحة للفنانة سلافة حجازي، وهي تشارك بلوحاتها في محور: بمثابة تحية إلى نساء سورية.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى