صفحات الثقافة

حكاية أصدقاء/ إبراهيم صموئيل*

لولا أن شاءت المصادفة وائتلقت الجلسة التي ضمتنا نحن مجموعة الأصدقاء من كتاب وفنانين ومشتغلين في الشؤون الثقافية المتنوعة, واتسع الحوار فيما بيننا, وتفتقت وجهات النظر عن رؤى جميلة وعميقة أدهشنا صدورُها عنا؛ لولا ذلك فعلا لما كنا أجمعنا على فكرة أن نلتقي بشكل شبه دوري, المرة بعد المرة.

جاء الاقتراح, بداية, من صاحب المنزل الذي كنا فيه, إذ عبّر عن سعادته بحيوية الجلسة, وحماسه لأن نعاود اللقاء مستقبلا, قائلا “إذا كان الجو العام للحياة الثقافية في البلد بليدا وخانقا وشبه ميت, فهل علينا أن نتبلد مثله ونختنق ويكون نشاطنا شبه ميت على غراره؟” ولأننا شعرنا بالبهجة أيضا جراء جلستنا الجميلة, فقد أمّنّا على ما قاله صديقنا, وشرعنا في عقد اللقاءات.

كنا نلتقي متنقلين بين بيت وآخر, بينما أخذت تعاودنا ذكريات لقاءات الصبا شبه اليومية في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت, صبا تثقفنا واطلاعنا المبكر على القصة والرواية والشعر وكتابات المفكرين, فضلا عن حميتنا للانخراط في الشأن السياسي والهموم العامة لمجتمعاتنا.

المياه الراكدة

بالطبع, لم يغب عن أذهاننا أن لقاءاتنا اليوم لن تكون كالأمس البعيد, فإذا كان ربيع أعمارنا آنذاك بحاجة ماسة للحوار والجدل والاختلاف, فإن خريفها الآن أحوج إلى الهدوء والتأمل. إضافة إلى ذلك، فإن الظروف والمعطيات الموضوعية التي أججت نيران تلك المرحلة هي غيرها الآن بعد أن قطع العالم -ومنطقتنا العربية معه- أشواطا زمنية وتحولات ليست قليلة.

غير أن إدراكنا هذا لم يُثن رغبتنا المشتركة في أن نحرّك مياهنا الخاصة المحيطة بنا على الأقل, وننشئ جزيرتنا الحوارية وسط مياه الحياة الثقافية العامة التي باتت ضحلة, آسنة, لا فوران فيها ولا تدفق, تسيل سيلانا بطيئا بحكم التعود والتكرار, وهو ما بات واضحا صريحا في شح الأنشطة الثقافية المتنوعة, وقلة عدد الحضور فيها, وذبول تفاعلهم إلى درجة تُحرج المحاضر أو القائم بالنشاط.

وفعلا, التقينا مرات، نوعنا الأماكن, وحرصنا على عدم التكرار أو التركيز سواء لجهة الجنس الأدبي أو اللون الفني, أو لجهة اختيار النص العربي أو الأجنبي المترجم, ثم توافقنا على إدارة الحوار فيما بيننا، بحيث لا يتخشب كما لو كنا في قاعة مركز ثقافي, ولا هو يميع أو يتفلت أو يقع في الشطط بعيدا عن الموضوع, في الوقت نفسه.

ولقد كانت تجربة طريفة وظريفة بحق، ممتعة, ومسلية, ومفيدة بطبيعة الحال. حرصنا على دوامها وتألقها, رغم عدم خلو بعض اللقاءات من الاسترسال أحيانا, ومن الشطط والخروج عن الموضوع الذي نعالجه, ولكن هذا لا يلغي حقيقة أنها أوقدت لدينا نار متعة التذوق الجماعي للعمل الأدبي والفني والفكري, ووسعت في فضاء الرؤية لكل منا عبر التعليقات والتأملات المشتركة والتباينات بين آرائنا, ولونت كآبة الوحدة التي كانت في مشاعر كل منا بمفرده, وإلى ذلك فقد شكلت “ذريعة” لجمعنا بعد تباعدٍ لطالما عبرنا عن استيائنا منه واحتجاجنا على استمراره دون أن نجد سبيلا لتغييره.

موت التجربة

الغريب الذي حدث -وهو ما سيثير دهشتنا وتساؤلاتنا فيما بعد- أن هذا كله لم يمنح التجربة من العمر سوى بضعة لقاءات فقط, قبل أن تتبدد كفقاعة صابون!

ماتت التجربة. يوما بعد يوم, راحت تذبل وتضمحل ويداخلها الملل، حينا كان الصمت وعدم المشاركة يغلبان على عدد منا, وحينا آخر يتغيب بعضنا أو يغادر معتذرا, الأمر الذي باعد بين مواعيد الجلسات, ثم أضعفها, إلى أن انفضّت. انفضّت من دون أن نقرر ذلك, أو نعرف علته حتى, كما لو أن وباءً أصابنا, أو نفورا تغلغل فينا, أو شعورا عميقا داخَلَنَا بعدم جدوى أو معنى ما نقوم به.

شيء ما خبا، أناخ علينا ما يربض على الحياة الثقافية العامة في البلد. طبقةٌ من سأم, كالصدأ, كست لقاءاتنا, وتراكمت على البريق الذي شع منا في البداية. فكنا نتمتم -كلما جمعتنا المصادفة في مكان- ونغمغم بما يشبه الكلام, فلا يزداد موتُ التجربة إلا غموضا والتباسا.

ترى, هل لأننا حاولنا معاودة السباحة في النهر آملين أن تكون مياهُه هي ذاتها التي كانت يوما في الستينيات والسبعينيات؟ أم لأننا اليوم لم نعد السابحين الذين كُنَّاهم في الماضي؟ أم تكون العلة من أحلامنا التي تجاوزتها أعمارُنا وتجاربُنا؟ أو من حال الحياة الثقافية العامة التي تسربت إلينا, وغمرت مياهُها جزيرتنا الصغيرة؟

لا أدري, ولا أحد منا كان يدري. شيء واحد ظل يَنُوس متأرجحا بيننا: ابتسامات أسيانة, ما إن نلتقي مصادفة في مكان عام حتى نسارع إلى تبادلها, كما لو كنا طيورا غردت خارج سربها إلى حين, ثم عادت منصاعة إليه.

* كاتب وقاص سوري

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى