أحمد عمرصفحات الثقافة

حكاية الحكايات الموسيقية/ أحمد عمر

 

 

شغفت حبا بحكاية قديمة،  وكنت أسأل عنها المعارف من الكتاب والباحثين والمصنفين، ومن بينهم الكاهن الأحمق غوغل، فلم أجد أحدا يعرفها. هنالك حنين أبدي لأول منزل ولأشيائه ومتاعه،  وكان في المنزل الأول قصص ومخطوطات قديمة.. وكان من جملة تلك الكتب حكاية مطبوعة في نسخة حجرية  تقع في خمسين صفحة عنوانها الظني ” الأميرة سيسبان  والأمير بدر الزمان”، كان عمري إحدى عشرة سنة عندما اطلعت عليها، ثم وجدتها مصورة في مجلة أسامة بيد الرسام السوري القدير ممتاز البحرة، وفوجئت بالتعديلات المرحة التي اختارتها المجلة  للحكاية وبناتها،  الحكاية المسلسلة مثل المدارات في الذّرة أو الطبقات في العمارة أو مثل هندسة الزاقورة،  تُذكرّ بالمعمار الحكائي العربي الشهير في ألف ليلة وليلة . اختفى “أسامة” بعد الحركة التصحيحية (من سنة 1978 إلى سنة 2001 ) ميلادية! ظنّ الكثيرون أنه اعتقل مع من اعتقل من أبناء سورية، أو نزح واختار المنفى الأوربي البارد على العيش في جوار تان تان أو استريكس هربا من سقف الوطن. اختصار الحكاية ضروري لما سيأتي بعده:

ينتوي الأمير بدر الزمان زيارة إمارة سيسبان  بعد أن سمع بكرمها وسخائها الذي ليس له مثيل، فيقع في حبها ويخطبها، فتطالبه بمهر المعرفة لا مهر المال؛ سرُّ حكاية  واحد من رعيتها! وهو خياط  يخيط الثوب حينا، ثم يصعد إلى المئذنة القريبة ويرقب  نجمة ضائعة في السماء، ويعود  إلى  إبرته التائهة في صحراء الثوب، وهكذا إلى أن يذوي النهار من غير أن يرفو رقعة في خياله الممزق بين الثوب والمئذنة، فيقصده بدر الزمان ويعرفه بنفسه، ويطلب منه أن يحكي له حكايته، فيعتذر ويطالب بأجر لحكايته وهو؛ معرفة  قصة الحداد الغامضة، فيذهب بدر الزمان شائقا إلى الحداد الذي يأبى  كشف  سر حكايته، إلا بسر حكاية الأعمى الشائقة، فيذهب الأمير  إلى الأعمى،  فيجده  قد جلس في السكة وفكِّ جرابه وانتظم الناس في رتل مثل رتل المؤسسات التموينية في الجمهوريات العربية لصفعه، كل صفعة بدينار  إلى أن يفرغ الجراب! يرفض الأعمى رواية حكايته ما لم يعرف حكاية الحذاء الذي يجلس كل يوم  على ناصية ويقضي نهاره في شوطين متعادلين، الضحك ساعة، والبكاء ساعة، دائبا، فيقصده الأمير فيطلب الحذاء معرفة حكاية طاحن الدرر، أجرا لحكايته، فيقصد الأمير ناديه، وينتظره،  فيراه قادما،  ثم يجلس لطحن أغلى الجواهر والدرر في الهاون، فيتقدم منه الأمير حانقا وقد أصابه الضجر، ويعرفه بنفسه فيعرفه طاحن الدرر فالأمير معروف بكرمه وفروسيته، ويقبل بأن يروي له حكاية الدرر المسحوقة  مجانا هذه المرة، فالشهرة بالخير أجرٌ مدفوع:  ورث الرجل ثروة تقاسمها مع صديقيّ العمر، وذهبوا للتجارة كل في درب، فعاد  من رحلته  منصورا محملا بالأرباح، بينما تأخر الصديقان. وبينما هو ينتظرهما يسمع استغاثة فينجد امرأة من سكين  أحد المجرمين فتكافئه على شهامته بذخيرتين هما البساط السحري والمرآة السحرية، ينظر  طاحن الجواهر في المرآة، فيرى صديقيه  وقد خسرا تجارتهما، فيقصدهما على البساط السحري وينقذهما، ويحكيان له قصتهما عند وصولهما إلى تلك المدينة التي أعلنت أميرتها مسابقة: “أكذب قصة” وجائزتها  هي الزواج من الأميرة، ويخفق الاثنان في حبك حكايتين كاذبتين، ويتحولان  عبدين، فيقرر طاحن الجواهر التقدم للمسابقة ويفوز بها، ويتزوج الأميرة، ويتعرض إلى غدر الصديقين الحسودين، وينجو بفضل المرآة السحرية ويقرر معاقبتهما بالإغاظة بطحن الجواهر  والدرر يوميا أمامهما. هذه هي الحكاية.  ينصحه بدر الزمان بتوزيع ثمن الجوائز على الفقراء،  ويخير الصديقين الغادرين بين ثروة جديدة والنفي عن المدينة، وبين الموت، فيختاران الثروة والنفي.

يأخذ بدر الزمان حكاية  طاحن الدرر إلى الحذاء الذي يروي حكاية زوجته التي اختارتها له أمه،  فاكتشف ليلة العرس أنها أقبح نساء المدينة، وأنها أسوأهن خلقا أيضا، ومضت سنوات حولته فيها إلى خادم لها،  وأغرت به أولادها العاقين الذين أنجبتهم ولم تحسن تربيتهم، فقرر الانتحار للخلاص منها،  في ساعة قرار الانتحار  يخبره جاره أنّ زوجته ماتت، بعد أن دسّ لها  أولادها فأرا، فخافت وهربت وسقطت فماتت، وهو يضحك كلما تذكر أنّ فأرا كان سبب موت امرأة بجبروتها، ويبكي كلما تذكر  سنوات حياته التي أهدرها في البؤس معها.  ويقصد الأميرُ الأعمى الذي  بدأت حكايته شابا قويا مبصرا  مع  شيخ صالح  قصده في مغامرة، فسافرا ودخلا مغارة، وقتل الأعمى- ولم يكن أعمى- وحشا يحرس كنزا، وفتح بابا ثقيلا، فوصل إلى الكنز، وزجاجة صغيرة، ويخرجان ويطلب  الأعمى حصته فيمنحه  الصالح  ربع الكنز،  فيأبى، ثم نصفها، فيأبى، ثم يمنحه كله، فيأبى ويطلب الزجاجة التي لا بد أنها ثمينة، فينصحه الرجل الصالح بعدم فتحها،  فيغلبه فضوله وطمعه، فيفتحها ويصاب بالعمى، وما ينفق من دنانير ذهبية يوزعها على الناس لقاء  كل صفعة هي ندم على جشعه حيث لا ينفع الندم.

ويذهب الأمير إلى الحداد بقصة الأعمى، فيخبره الحداد  أنه تزوج وأنجب وكسب كثيرا من المال، وكان يدخره ويبخل على أولاده ويقتر عليهم، ثم أضاع الحفرة التي دفن فيها المال، وهو يقضي يومه في نبش الدكان، وهذه حاله كل يوم. ويقصد الأمير الخياط المؤذن بحكاية  الحداد، فيحكي له أنه  رأى طائرا جميلا على مئذنة المسجد، فتعلق به، فطار به إلى مدينة جميلة فيها أمير وحيد،  فيعرف  منه أن الأمير  مغرم بصوته  فأرسل له الطائر مغريا له وجاء به ليصير مغنيه ومطربه،  فقضى الخياط في صحبة الأمير  زمنا سعيدا وهو يغني له، ثم اشتاق إلى أهله، وطلب إجازة  فاشترط عليه أن يعود بعد ثلاثة أيام، لكن أنس الزوجة والأهل أنساه الموعد. وهو يتفقد الطائر  كل يوم  في المئذنة، فلا يجده.  ويذهب بدر الزمان بالحكاية للأميرة فتخبره بحكايتها،  كانت خادمة استفاقت في الليل على  هاتف وطاسة سحرية تمتلئ بالدنانير كلما فرغت، ثم يخبرها وليها أنها كانت أميرة، هرب بها من غزو إمارة أبيها، وقد كبرت الآن  وتحررت إمارتها من الغزاة،  ويمكنها أن تعود أميرة، وعادت وتزوجت بدر الزمان بمهر الحكاية. تلك الحكاية الإمام، والحكايات حبات السبحة. كل حكاية  لا تقدر بثمن.

اتصلت عبر زواجل  الفيسبوك الزرقاء بكثيرين يحتمل العثور عندهم على الحكاية المفقودة أو لعلهم اطلعوا عليها، فغوغل الغبي لا يعرف عنها شيئا،  كان من بين هؤلاء  أصدقاء قبل الثورة، وفرقتنا الثورة مشكورة، قال لي صديقٌ ناصحا: اتصل بنبهان الخياط،  فهو كاتب له ثمانون كتابا في التراث والمسرح والقصة والنقد..  مقيم في الوطن، تنقطع عنه رحمة الكهرباء، وتصله  أشواطا ومنازل. تركت له تحية  وسؤالا عن القصة بعد أن لخصتها له في سطرين فردّ علي صارخا: خائن. قدرت أنه يحسب نفسه مُراقبا على الفيسبوك ويحبُّ أن يظهر الولاء، ولهذا هو يشتم، فلم يكن جهولا أبدا..

أتشتمني ؟

نعم .. أشتمك وأشتم أمك وأبيك

ما السبب ؟

تلجأ إلى أردوغان، خائن ..

ثم رماني في غيابة الحذف الالكتروني.

فكرت ونجّمت كثيرا  فتذكرت صديقا عمل أمينا لتحرير مجلة  أطفال، وله مؤلفات كثيرة في التربية والحكايات،  فطلبت صداقته فوافق بعد شهر من طلب الصداقة، السفارة الألمانية  كانت أسرع منه جوابا، يبدو أنه من الزاهدين في الاتصالات الزرقاء، سألته عن القصة فأبلغني أنه لا يعرف عنها شيئا، ودلّني  على الشاعر الصديق ابن البلد ، شاكر الطحان، فسألته فسبّني وشتمني أيضا! هل الرجل من الموالين؟ هو ليس مواليا ولا معارضا .. فلمَ الشتم؟

عفوا لمَ تشتم.. هل أخطأت يا جاري القديم؟

واضح أنك تسخر مني..

أين السخرية ؟ هذا سؤال جاد.  وتذكرت أنه رجل ريّاب، .. فقد كان بيننا معركة ثقافية صغيرة انتهت  بهدنة طويلة.

وأرفقت  جوابي بروابط للقصة في مجلة أسامة،  وكنت قد حوّلت المجلة إلى ملفات( بي دي اف)  والى مقال نشرته عن الموضوع ورويت له حكايتي مع الحكاية، فاقتنع على ما يبدو،  ولم أسأل عن سبب غضبه ولا عن شتائمه.. نصحني أن أذهب إلى الباحث عبدو العميان ..

أخبرته أن عبدو  صديقي  على جزائر الفيسبوك، وكان بيننا لقاء قبل عشر سنوات.  تركت له تحية على الخاص، فردّ عليها، وأخبرته أنّ لدي سؤالا عسى أن يجيب عنه، مخافة أن أتسبب في غضبة مشابهة، وبعد أن آنست منه رشدا، تركت سؤالي بعد مقدمة وتوطئة إضافية، فأجاب قائلا إنه قرأ القصة عندما كان صبيا، لكن بصره ضعيف، فقد بلغ الرابعة والثمانين لا أبا لك يسأم، ولو كان في عصر لبيد بن أبي ربيعة فيسبوك ما سأمَ أبدا، وهو يكتب إشعاراته على الفيس بواسطة مكبرة،  وكان هذا يعني أن الحوار انتهى. ففكرت البحث عن أقرباء ممتاز البحرة  الذي رسم القصة، فعثرت على  مشتركين لهما نسبته، فطلبت صداقة أحدهما فوافق، وأخبرني أنه يعرفني،  وشرحت له المسألة، فقال: إنه خارج الوطن، ولا يعرف شيئا عن القصة، وأخبرني بأنه من الأفضل الاتصال برئيس تحرير أسامة آنذاك الأستاذ زكريا تامر، وكنت أحتفظ بالبريد الالكتروني  لتامر، لكني فرطتُ به بعد زيارة  لفرع الأمن السياسي عند ظهور فن البريد الالكتروني، سألوني وقتها في ما إذا كان لدي “ايميل”، فرديت عليهم بالإيجاب، فوقف على رأسهم الطير وكأني أتصلت بأوباما مثل طل الملوحي، وطلبوا مني الايميل وكلمة سرهه،  ولم يكن فيه سوى بضع رسائل، فتخليت عنه ، وأسست لنفسي بريدا جديدا  وهكذا كان علي أن أبحث عن ايميل تامر، فاتصلت بالصديق أبو سامي في لندن، فأرسله لي على جناح الألكترون، فكتبت لتامر هذه الرسالة :

الأستاذ زكريا تامر تحية وبعد:

التقينا مرة يا أستاذ زكريا أنا وأنت ونيروز مالك… وتمشينا في شوارع دمشق ..

عندي سؤال:

في قصة لمجلة أسامة، قمت بتزكيتها لممتاز البحرة، وتمّ إخراجها مسلسلا باسم الحكاية القديمة، السؤال: هل تتذكر اسم القصة القديمة؟ وهل يمكن الحصول عليها؟ لعل اسمها الأصلي هو:  الملكة سيسبان والأمير حسام الدين ….

التوقيع : أحمد عمر وسلامه العادل والشامل.

فجاءني بعد ثلاثة أيام جوابه..

العزيز أحمد:

أذكر ليلة التسكع كأنها حدثت البارحة، وأتمنى تكرارها.

ما يتعلق بالحكاية القديمة، فقد اشتريتها في الخمسينيات من رصيف قرب الجامع الأموي، وكانت مطبوعة وحدها في كتيب، وأعجبت بتلك الحكايات التي تتوالد، واحتفظت بها، وعندما تسلمت رئاسة تحرير مجلة أسامة في عام 1975، قمت بإعداد الحكاية للأطفال، وكلفت ممتاز البحرة برسمها. لا أتذكر العنوان الأصلي للحكاية، ولكنه قريب من العنوان التي ذكرته في رسالتك.

يخيل إلي أني ما زلت محتفظاً بالنص الأصلي، ولكنه ضائع في أوراقي بين دمشق وأوكسفورد، ولو عثرت عليه قريباً، فسأرسله إليك.

لك تحياتي الحارة ومودتي.

ملاحظة أولى: بدّلت أسماء المتصل بهم للضرورة الأدبية والفنية.

ملاحظة ثانية: أن الأميرة سيسبان كان يمكنها اعتقال مواطنيها وإجبارهم على  كشف أسرارهم

ملاحظة ثالثة : لا يباع حاليا بجانب الجامع الأموي سوى صور الغزاة والطغاة

ملاحظة رابعة:  أن المخابرات كانت تحتكر فن سماع الحكايات بالإكراه،  وأن فنّ الفانتازيا التاريخية التلفزيونية كان نفيا مبكرا للمواطن السوري عن واقعه. وكانت الثورة  بابا لرواية الحكاية الأسيرة التي لم تعد البحار حبرا تكفي لروايتها.

ملاحظة خامسة: أحلى قبلة الكترونية لمن يعثر على الحكاية المفقودة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى