حكاية شقيقة وشقيق
عقل العويط
في غمرة ما يجري من وقائع عربية، ليس آخرها إعدام الديكتاتور الليبي ثورياً، ولا تواصل انتفاضة الشعب السوري ضد نظامه الاستبدادي، هناك مناسبة موضوعية للكلام على السوية المهدورة للعلاقات اللبنانية – السورية، الآن، من خلال اجتهاد النظام السوري في نقل الأزمة الوجودية التي يواجهها الى لبنان، ضمن مشروع إلهائي، يهدف الى حرف الأنظار عما يعتريه في الداخل.
ليست التوغلات العسكرية السورية في الأعماق اللبنانية، ولا طبيعة ما تقوم به السفارة السورية في لبنان، هما بالذات سبب هذا المقال فحسب، إنما هناك الهدف التدميري الماثل وراءهما، متجلياً في تغذية الانقسامات اللبنانية، وصولاً بها الى حدودها القصوى اقتتالاً، وهو “المعيار” الذي يتيح للمستبدّ أن يشرعن كل انتهاك للكرامة السيادية، أكانت هذه الكرامة معنوية أم مادية، فردية أم جماعية.
هذا “المعيار” العائد فصولاً، يختصر تاريخاً أسود من العلاقات بين بلدنا الصغير والنظام الجائر الذي يحكم سوريا منذ نصف قرن، لم تتخلله إلاّ لحظات خلاّقة نادرة تدين بأسبابها لظروف خارجة على ما يريده هذا النظام ويشتهيه. إنه “معيار” السيّد والمسود، القوي والعنيف، المفترس والغزال، وهو نفسه “معيار” أزمنة العبودية، بكل ما تومئ إليه تلك الأزمنة من وقائع، ليس أقلّها الامتلاك، وإعمال سيف الطمع والتلذذ والتشفّي والعنف والترويع والقتل في الممتلَك والمستعبَد.
أنظروا حال المفترس، في يومياته، كيف يصرف أوقاته في تحيّن الفرص للإيقاع بفريسته، وكيف يقضّ مضاجعها، ليل نهار، وكيف يلاحقها، الى أن ينشب أظفاره وأنيابه فيها، ويُعمِل فيها لحساً ونهشاً ومصّاً، ثم يستلقي منتشياً متلمّظاً، أو يغادر متبختراً متشاوفاً، مواصلاً بحثه الغريزي والأبدي عما يرسّخ وجوده غير القابل للتخلّي عن طبيعته الافتراسية.
يندرج هذا “المعيار” في طبائع الغابة الحيوانية من جهة، وفي طبائع الاستبداد البشري، وفي جواهره، من جهة ثانية، وهذا الأخير ليس شأناً عابراً، يمكن أن يتغيّر مع تغيّر الظروف والمعطيات. لذا، فإن هذا “المعيار” محكوم بمنطقه “الأبدي”، ما دام الاستبداد المعنيّ مستتباً، وقادراً على ممارسة فعائله “الميمونة” في الناس والأمكنة.
مجدداً أقول، إن هذا “المعيار” هو الذي يحكم العلاقة بين النظام في سوريا وبين هذا البلد الصغير. بل أقول: عبثاً كل محاولات إقناع النفس بالتوصل الى صيغة سوية وندّية وكريمة للعلاقات بين الشقيق الصغير والشقيقة التي تكبره، ضمن المعادلة القائمة، معادلة النظام الجائر المستبد من جهة، والبلد الضعيف الهش بمكوّناته وجماعاته من جهة ثانية. عبثاً، والحال هذه، كل احتمال للخروج من هذا النفق “الأبدي”، إلى معادلة الحرية والديموقراطية. كل المحاولات المنافقة والكاذبة، أو حتى “الصادقة” قسراً، في التاريخين القريب والبعيد، باءت بالفشل، لأنها قامت على رمل الخديعة، وليس على مفهوم القانون والسيادة والمساواة والشفافية والاقتناع.
هذه نتيجة طبيعية. إذ يستحيل على نظام مبني على الاستبداد أن يصبح ديموقراطياً، لأن ذلك مخالف لطبع الاستبداد، ولأن الطبع يغلب التطبّع. كما يستحيل على نظام استبدادي كهذا، إلاّ أن يُنتِج استبداده، فيتناسل من تلقائه في البنى والمؤسسات والهيئات، ويصنع لنفسه معايير ومفاهيم، قانونية وسياسية وأمنية وقيمية وثقافية، لا بدّ أن تعمّ الأرض التي يرخي ظلاله الثقيلة عليها، فتنتقل مفاعيل هذه المعايير والمفاهيم، قسراً، وإرهاباً، وتفرض مكوّناتها ونتائجها على الأفراد والجماعات.
لا أريد أن أتحدث عما فعله النظام السوري بهذا البلد الحضاري الذي اسمه سوريا، ولا عما فعله بهذا الشعب السوري العظيم، بل يعنيني أن أقول خصوصاً إن هذا النظام قد أمضى عقود حكمه كلها في مصادرة الحياة، عندنا، مصادرةً كليانية، فعمل على جعلها معدومة، أي مقتصرة على حيّزها الفيزيقي، الغرائزي، التقني، عامداً الى “تنظيفها” من كل احتمال للحياة البشرية الحرّة، بما تنطوي عليه من خلق وكرامة وأمل وغنى وقيم وتمرد وعنفوان وتطلع الى السعادة.
هذا ما عكف النظام السوري على ترسيخه في بلدنا الصغير هذا، فمنعه من أن يصبح دولة سيدة، حرة، مستقلة، وذات كرامة. لكنه لم يستطع أن ينجح في مهمته نجاحاً تاماً.
بلى، استطاع. لقد استطاع أن يمعن في لبنان تقطيعاً وتجزيئاً وشرذمة: دولةً، وأرضاً، وأمناً، وسياسةً، وإدارات، ومالاً، وفساداً، ومكوّنات، وطوائف، وأحزاباً، وهلمّ. واستطاع أن يجعلنا – بدون تعميم – قطعاناً يفترس بعضنا بعضاً، ويقتل بعضنا بعضاً.
نحن في المقابل، لم نكن ملائكة، ولا قدّيسين، بل كنا – بدون تعميم أيضاً – شياطينه الأرضيين والسماويين، وكنا عبيداً، وأدوات، وأذيالاً، وكنا أتباعاً، وأنذالاً، وجواسيس، وعملاء، لديه، وبعضنا ضد بعض.
لقد استطاع هذا النظام أن يؤلّب بعضنا ضد بعض، لنظلّ نلجأ إليه، أكنا مريدي جبروته أم كارهي هذا الجبروت، فنكّل بالمريدين مثلما نكّل بالكارهين، ما جعله طوال هذا “الأبد”، حاكماً مستبداً ليس في سوريا فحسب إنما في لبنان أيضاً.
لكنه لم يستطع تماماً. لأن كثراً منا لم ينضووا، ولم يرضخوا، ولم يركعوا، ولم ييأسوا.
هذه هي حالنا مع النظام السوري، فكم بالأحرى هي حال الشعب السوري مع نظامه هذا!
لا يعنيني أن أقوم مقام الشعب السوري في كتابة سيرة علاقته بنظامه، فهو “أيوب” الأزمنة المعاصرة، بل أكاد أقول “مسيحها” المنتفض على الوثن، وها هو يقدّم من الوقائع البطولية المذهلة ما لا طاقة للخيال على توليده، بل يقدّم ما يعفي “الآخر”، كل “آخر”، من التنطح للاضطلاع بمثل هذا الدور.
لقد عانى الشعب السوري، مدى هذه العقود، ما عاناه من ويلات معروفة وغير معروفة، وها هو كيله يطفح انتفاضةً خلاّقة، هي في الطريق الشاق الطويل الى صيرورتها ضوءاً يعد بالحرية. ولا بدّ أن يعد، في ما بعد، بالديموقراطية.
وإذا كان النظام الاستبدادي، وأمراضنا الهذيانية والاستتباعية والانتهازية والطائفية والمذهبية، يمنعان الشعب اللبناني من أن يصنع دولة سوية، كما يمنعانه من أن يكون موحّداً في مواجهة الاستبداد، إلاّ أن ما يجمعنا، بعضنا وأنت، يا صديقي المثقف السوري، بل يا أخي الشعب السوري الثائر، إنما هو التوق الى الحرية. ولا بدّ أن يزداد هذا التوق تأججاً واضطراماً وعزماً، كلما سقط ديكتاتور جديد على الطريق. توقنا معاً، جامح، ومشترك، ولن يهنأ له بال، قبل أن يشتعل الفجر بشمس الحرية.
لبنان وسوريا، كبلدَين مستقلَّين، ديموقراطيين، يمكنهما، كلٌّ حيث هو، سيداً مستقلاً، كما يمكنهما معاً، دولتين ندّتين وسويتين، أن يساهما في التأسيس لنهضة عربية جديدة، ذات قدرة على إنتاج ثقافة الحرية والحداثة، ونقل “عدواها” الى أمم العرب، ممالك وإمارات وجمهوريات، كما الى أمم الشرق كلها.
لبنان وسوريا، هذه حالهما المأمولة، يمكنهما معاً، أن يرغما العدوّ الصهيوني، كما الولايات المتحدة، على إحقاق الحقّ السليب في فلسطين… وفي سوريا أيضاً.
بدون ذلك، عبثاً يتعب البنّاؤون.
عكف “حرّاس” النظام الاستبدادي، و”كتبته”، و”موظّفوه”، و”مريدوه”، على كيل تهم العمالة والخيانة لكل من ينتقد اليد السورية الثقيلة على لبنان، وصايةً سياسية، وتأليباً، وتوغلاً عسكرياً، وتطاولاً استخباراتياً وأمنياً. هؤلاء لن يكونوا سعداء بهذا المقال، بل سينتهزون هذه المناسبة للتنكيل بكلماته. هذا متوقع. لكن كلمات هذا المقال لن تتيح لهم أن يرشقوها، حتى بوردة. فهذه الكلمات التي ترفض استبداد النظام الجائر، ترفض بالقوة نفسها، بل أقوى وأكثر، كل استبداد “شقيق” أو “صديق” مماثل. فكيف إذا كان هذا الاستبداد احتلالاً، وكيف إذا كان كان غريباً، وعدوّاً، وصهيونياً؟!
ستكون هذه الكلمات أبعد أثراً، عندما ينتفض اللبنانيون على أنفسهم أولاً، لينتفضوا تالياً على هذا النظام الذي يحاول الهرب من مواجهة امتحانه الداخلي بنقل هذا الامتحان الى بلدنا “الملعون” بوصمات أهله المشرذمين، وبعار البلد – الساحة.
النهار