حكاية كانيوار مع الكتائب الإسلامية/ علي جازو – زارا سيدا
كثيرة ومختلفة هي الكتائب المسلّحة التي ادّعت انضمامها إلى “الجيش الحرّ”، وخالف سلوكُها الغايةَ التي دفعت السوريين إلى الثورة ضدّ نظام الحكم. ثارت شكوكٌ جديّة، رافقتها حملات استنكار، حول خطورة هذه الكتائب ومدى انضباط سلوكها وأخلاقيات الثورة، واحترامها حقوق الأسرى، مدنيين أكانوا أم عسكريين، في ظل انعدام القوانين، وفوضى انتشار السلاح وكثرة المسلحين.
على سبيل المثال، لا الحصر، تجدر الإشارة إلى “كتيبة درع الحق”، الموجودة في إدلب – جسر الشغور، التي أسرت العديد من المكلفين الخدمة العسكرية الإلزامية ممّن فشلوا أو لم يتمكنوا من الانشقاق عن جيش النظام. طالب قادة هذه الكتيبة أهالي المجندين الأسرى دفعَ فدية مالية مقابل الإفراج عنهم. من بين هؤلاء الأسرى مجنّدون كردٌ سوريون.
أين وكيف؟
من أبناء قرية جولي التابعة لمدينة عامودا، المجند كانيوار عيسى أحمد، كان يخدم ضمن تشكيلات الفرقة الثالثة التابعة لـ”الجيش العربي السوري”. في شهر آذار من سنة 2012، نُقِل كانيوار إلى جسر الشغور ليكون عنصراً مراقباً على أحد الحواجز في قرية بدامة – إدلب.
يقول كانيوار: “كنت واحداً من الذين تمّ فرزهم ليكونوا مراقبين على أحد الحواجز في بدامة. شهدنا مناوشات ليلية، لم تكن خطرة في البداية، إذ هاجمَنا “مسلّحون” وتبادلنا إطلاق النار. كان الأمر أشبه بتحذير لنا منه إلى قتال جديّ. بعد فترة قليلة تلقينا أمراً بالانسحاب إلى مقر الكتيبة في الزعينية، إذ تحاصرنا هناك كتائب “الجيش الحرّ”. كنّا نحو ثلاثمئة مجند، قضى من بيننا ما يقارب التسعين أثناء الحصار. إثر ذلك تلقينا من قائد الكتيبة العقيد كرم مصطفى الذي قُتل في ما بعد إثر الاشتباكات، أمراً بالانسحاب من الزعينية صوب الجسر”.
تعذيب وإعدامات
“كنّا خمسة جنود معاً في الانسحاب، إثنان منّا فقط كانا مسلحين، في المقابل مسلحان إثنان من “الجيش الحر”. طالبونا بالاستسلام وهم ينادون “عليكم الأمان”. سلّمنا أنفسنا بعدما تخلصنا من سلاحنا في الغابة، ليطالبونا به بعد حين ويأخذوه من حيث تركناه. بعد ذلك رافقونا إلى غرفة في القرية حيث كان هناك ضابط برتبة ملازم أول يدعى أحمد خميس من “كتيبة درع الحق”. لم يسألنا سوى عن أسمائنا ونقطة خدمتنا، لكنه سلبنا ما نملك من مال وأغراض بحجة أنها ستودع في الأمانات. كان معي 25700 ليرة. بعدها أخذونا فوراً إلى مكان يبعد نحو 30 كلم، عبارة عن مدجنة حيث كان يقيم النقيب أبو فيصل. أمر النقيبُ الملازمَ بتأديبنا وضربنا. ضُربنا بالكبل الرباعيّ بشكل موجع.
على إثر ذلك، وشى البعض إلى النقيب بأحد المجندين زاعماً أنه كان رامي رشاش في معركة الحاجز، وحلفوا بذلك لتأكيد الوشاية وتثبيتها ضد زميلهم، فقرر النقيب قتله بإطلاق النار عليه، ونُفِّذ الأمر. في المساء أدركتُ أننا نحو 400 مجند في المدجنة حيث نمنا. صباح اليوم التالي جاءنا النقيب ووقف بيننا منادياً: “كل كردي يجي لعندي”. كنا تسعة عشر كردياً. سألنا إذا كنا كرداً حزبيين (من تابعي المجلس الوطني الكردي)، أو آبوجية (من أنصار حزب العمال الكردستاني)، ليعود بعد ثمانية أيام أمضيناها هناك، ويطلب منا الطلب القديم ويأمرنا بصعود جرّار زراعيّ. لا نعلم ماذا حدث بعدها في الداخل، إلا أنه انضمّ إلينا عدد آخر من مختلف المناطق السورية، ليصبح عددنا في حدود 75 مجنداً أسيراً. تم إبلاغنا بأن “الجيش الحر” سيعيدنا إلى أهلنا، لكننا فوجئنا بأنهم أخذونا إلى جبل الزاوية لنسكن في مدرسة، ويحقّق معنا – الكرد فقط – شخصٌ يُدعى برج. طلب برج أرقام هواتف أهلنا، إضافة إلى أسماء الأب والأم. أثناء وجودنا في المدجنة في اليوم الأول للأسر، قبل الترحيل، زارنا العقيد عبد الرزاق فريج من المجلس العسكري الثوري في ريف حماة، وتحدث إلى الموجودين متسائلاً عن أسباب عدم انشقاقهم، ومبدياً النصح بأن النظام زائل، في ما يشبه الندوات السياسية التي كنا نتلقاها بداية التحاقنا بالخدمة العسكرية الإلزامية، وبقيت الأمور تمضي عادية حتى جرى تسليمنا إلى ذوينا.
الأهل والفدية
تقول عائلة المجند كانيوار: انقطعت الاتصالات مع ابننا كانيوار فجأة وسط قلق وخوف على مصيره، لولم نعلم أي شيء عنه حتى فوجئنا باتصال من شخص عرّف عن نفسه بأنه “أبو عدنان من كتيبة درع الحق” ليتحدث كانيوار إلى والدته مؤكداً أسره، وليكون الحسم بالظهور في شريط فيديو على النت والتلفزيون أظهره مجنداً أسيراً لدى هذه الكتيبة، لتبدأ رحلة البحث عن فكّ الأسر الذي ظنّنا حينها ستكون تلقائية للوهلة الأولى، إلا أن أبا عدنان في مكالمته تلك تحدث عن “فدية” قدرها 500 ألف ليرة سورية.
لم نكن أوّل ذوي الأسرى في المنطقة. تبيّن لنا بعد السؤال أن هناك من سبق وجلب ابنه بعد دفع الفدية، وأصبح مرشداً لنا في الطريق إلى قرية علي روز بالقرب من كنصفرة في جبل الزاوية. الرحلة كانت عبر تركيا ومنها إلى إدلب لاستحالة الطريق غير ذلك. مكثنا في تركيا محاولين إجراء بعض الاتصالات عسى نستفيد منها، حيث التقينا قائد كتيبة مشعل التمو، وهو من أصول عربية. كان شخصاً مهذّباً، أجرى اتصالات عديدة مع أطراف من “الجيش الحرّ”، محاولاً الضغط على “كتيبة درع الحق”. قال إنه لن يتركنا ندفع “مليماً واحداً”، لكن كلامه لم يلقَ أذناً صاغية لدى الكتيبة.
بعد ساعات سفر طويلة من أنطاكيا إلى كنصفرة، تجنّب فيها السائق العبور من مراكز قريبة لوجود النظام أو الموالين، في منطقة متداخلة سكانياً، وصلنا إلى القرية المحددة، واجتمعنا مع المدعوين أبو عدنان وأبو فيصل في بناء كان يعود سابقاً للدولة. بدا أشبه بمقر لمركز إعلامي، حيث مجموعة رجال كلُّ واحد يستخدم النت ويتابع اخبار الميدان والمعارك ويجري اتصالات مع قادة ميدانيين. دار بيننا والمذكورَيْن من الكتيبة حديث مقتضب بعد رفضهما التنازل عن “ليرة واحدة” من المبلغ تحت أي ظرف: “إذا بدّك ارجع وابنك هون”، اتهما فيه الكرد بأنهم ليسوا مع الثورة، وبأنهم “موالون للنظام”، رغم انّ جو اللقاء كان محيّراً لنا ومقلقاً، ولم استطع إلا الردّ بالحديث عن انتفاضة 2004، وأننا في الوقت الذي كنّا فيه نجابه النظام كنتم أنتم جزءاً من النظام. كان جوابه سريعاً ومحبطاً: “نحنا تربايتو”. لكن في الحقيقة أعتقد أنهم أسوأ منه بكثير. قاما يعدّان المال بدقة متأنية كموظفي البنوك. لم يفُتْهما استبدالُ ورقة نقدية ممزَّقة الطرف. بعدها سلّمانا ورقة مختومة من المجلس العسكري الثوري في ريف حماة، مذيلة باسم العقيد عبد الرزاق فريج وقّعها النقيب أبو فيصل، ودوَّنَ عليها تفاصيلَ الإسم وتاريخ الانشقاق لتكون “جواز سفر” وإذن مرور على كلّ حاجز لـ”الجيش الحرّ”.
النهار