صفحات الرأي

حكاية من زمن الحمير/ فاروق يوسف

حين عاد حمار الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله من جبل المقطم وحيداً، التبس الأمر على المصريين. كان السؤال يتعلق بمصير الحمار أكثر من مصير صاحبه. فلو استعاد ذلك الحمار مكانه الطبيعي بين الحمير، لكان ذلك الحدث بمثابة فتح لعصر ذكوري جديد، يكون الجرجير من أهم مفرداته النضرة. لكن، ماذا يقع لو كان الحمار قد اتفق مع صاحبه على أن يعود وحيداً ليختبر ردود أفعال الرعية، ومن ثم يرجع إلى صاحبه وقد امتلأ أنفه برائحة الملوخية؟ يومها كان التاريخ كعادته يسير على أربع عجلات، اثنتان منها كانتا وهميتين. وإذا كانت ست الملك قد قطعت الشك باليقين حين أكدت موت شقيقها مقتولاً، فإن هناك نفراً من المصريين لم تعجبه نهاية من هذا النوع فقرر أن يضمّ الخليفة الفاطمي إلى متحف المنتظَرين. وهو متحف خيالي، شديد الشبه بمتحف مدام توسو، الذي لا يكف عن اضفاء مسحة خلود شمعية على بشر، كانت الجريمة بالنسبة إلى بعضهم الممر المريح إلى الشهرة.

لم يذكر المقريزي وهو أشهر مؤرخي تلك الحقبة، شيئاً عن مصير حمار الخليفة. هل عاد الحيوان المسكين إلى حظيرته الملكية بعزٍّ فاطمي، أم أنه تُرك سائباً في الشارع، مثله مثل الكثير من الحيوانات السائبة التي كانت تعجّ بها شوارع القاهرة في تلك الأيام. غير أنه من المؤكد أن المصريات اخترقن يومذاك زمن الصمت حين تجرأن على وضع الجرجير تحت السرير، في نداء واضح لفحولة أزواجهن التي كانت مؤجلة. ليست مزحة أن يقال إن جزءاً من التاريخ تتم صناعته في المطابخ. ألم يخض الهولنديون حرباً ضروسا من أجل السيطرة على تجارة “جوزة الطيب”؟ حدث ذلك بعدما تحرر الأوروبيون من خرافاتهم الدينية القديمة، غير أن البشرية لا تكفّ عن انتاج الخرافة التي من شأنها أن تصنع مذاقاً رائعاً للعيش. لو فكّرنا في الكافور وهو يرافق أجساد أحبّتنا الميتين إلى الآخرة لانتشينا بالزعفران والقرفة والقرنفل والفلفل بكل ألوانه. وإذا كان الجرجير قد استعاد هيبته الإيروتيكية في غرف النوم المصرية بغياب الحاكم بأمر الله، فإن ذلك إنما يشير إلى ولادة عصر جديد، صار فيه المصريون أحراراً في مطبخهم. ألهذه الدرجة تفقد الحرية معناها المطلق وتكون قاصرة عن التماهي مع رغبتها في أن تكون جديرة بالاحترام؟ الشعوب فعلت ذلك.

الشعوب التي قبلت بالأقلّ، لتفرح به، هي التي حطمت بنفسها درجات سلّم حريتها. فحين غزت قوات الولايات المتحدة العراق عام 2003 وأسقطت نظامه المستبد، فرح عراقيون كثر ومن بينهم مثقفون حداثيون. لقد تحققت نبوءة كنعان مكية، وهو مثقف عراقي مقيم في الولايات المتحدة، كان قد بشّر الأميركان بأن العراقيين سيستقبلون قوات الغزو بالورود والضحكات. غير أن ما حدث أن العراقيين كانوا مزعجين بعض الشيء، الى الدرجة التي اضطرت معها سلطة الاحتلال بالتعاون مع أحزاب عراقية كانت تعمل لحسابها، إلى اختراع حرب أهلية، التهمت خلال سنتين مئات الألوف من أرواح العراقيين. حين ظهر مكية على شاشة إحدى المحطات الفضائية الأميركية باكياً، وهو يعلن خيبة أمله في الاحتلال الذي دمر بلده، لم يتطرق إلى ما ربحه العراقيون بعد الاحتلال: حريتهم في ممارسة طقوسهم الدينية. وهو تعبير ملطّف يُقصد به اللطم وضرب الرؤوس الحليقة بالسكاكين والمشي حفاة مئات الكيلومترات تحت الشمس العراقية التي لا ترحم. لقد اختزل المحتل حرية العراقيين في هذا المستوى من العدوانية الذي ينظر إلى الذات باعتبارها عدوّاً، ينبغي إذلاله. ألا يستحضر العراقيون الحجاج بن يوسف الثقفي، واليهم الأموي الذي قرر في لحظة غيظ أن يقطف رؤوسهم التي أينعت وحان وقت قطافها؟

كل الوقائع لا تسمح لي بالتقاط لحظة نصر متخيَّل، لكنها تقودني إلى سؤال من نوع: ما معنى أن يكون الشعب مهزوما؟ لقد انتصر المصريون على الحاكم بأمر الله حين ذهبوا إلى المطبخ ليضعوا الملوخية في قدورهم، وانتصر العراقيون على صدام حسين حين صاروا يمشون حفاة إلى مرقد الحسين، وهم أشبه بالشحّاذين. اسمع ضحكة الرجلين القادمة من الماضي. لقد نجحا في ارتجال نوع من الحرية، ينسجم مع طريقتهما في النظر إلى مفهوم الحرية. من وجهة نظر الحاكم بأمر الله، الحرية لن تتخطى عتبة المطبخ، أما الحرية بالنسبة إلى صدام حسين فإنها لا تذهب بعيداً عن السلوك الذي يذل الذات من خلال إلحاق الضرر العلني بها. كان الاثنان رجلَي تاريخ، عبّدا الطريق لمن صعد إلى الحكم بعدهما.

ستكون صورة حمار الحاكم بأمر الله عائداً من جبل المقطم وحيداً، ماثلة في الأذهان دائماً. لقد فكر ذلك الحمار طويلا في مصيره. من المؤكد أن مكانته الملكية قد هيّأته لرفس كل من يحاول ركوبه من العامة. غير أن ما لم يكن يخطر في ذهن ذلك الحمار البريء أن اللعبة السياسية كانت قد تبدلت. تعرف الحمير الديموقراطية، لكن في حدود عالمها. لذلك لم يتوقع ذلك الحمار أن يكون عالم البشر ديموقراطياً مثل عالم الحمير. فاته أن “الحمار” هو الشعار غير الرسمي للحزب الديموقراطي الحاكم في الولايات المتحدة الآن. وهو ما لم ينتبه إليه العراقيون أيضاً. أوباما يعترف بحق الحمير في التصويت. لكن الحمير وقد تناقص عددها بسبب عدم الاهتمام البشري بها، لم يعد حضورها ذا أثر يُذكر في الانتخابات.

أتذكر أنني أخذت ابنتي يوم كانت صغيرة إلى حديقة الحيوان في الدوحة، فلم نر إلا حميراً، فيما كانت الحيوانات الأخرى مختبئة في بيوتها بسبب حرارة الطقس. سألتني ابنتي يومذاك: أليس في هذا العالم إلا الحمير؟ لم يكن في إمكاني أن أنسيها ضالّتها هي التي كانت تحلم في رؤية الأسد والنمر والزرافة وفرس النهر والفهد. هل كان عليَّ أن اقول لها: مبكرةً وصلتِ إلى النتيجة، وأحزن من أجلها؟ كنتُ سأحزن في الحقيقة من أجلي. في لحظة غضب مسخ الله الجميع حميراً، قلت لها. سألت: وماذا يحدث لو غضب الله على الحمير؟ تذكرت صورة نابوليون ممتطياً حماراً مصرياً. هل كان ذلك الحمار هو نفسه الحمار الذي هبط من جبل المقطم وحيداً؟ في إمكان التاريخ أن يسخر من الامبراطور المزهوّ بشبابه. لقد اشترى المتحف الاسلامي في الدوحة ذات يوم حماراً قيل إنه ينتمي إلى نسل الحمار الذي امتطته ذات يوم أمّ المؤمنين عائشة. بعد تلك الحادثة ذهب وزير إلى المنفى البارد بعدما أتُهم بهدر ثلاثة ملايين دولار أميركي.

كم كان الديموقراطيون في الولايات المتحدة محقين حين اتخذوا من الحمار شعاراً غير رسمي لهم؟ كان علينا أن نسبقهم إلى تلك المعجزة. كان لدينا حمار عائشة، وهو الشاهد على الفصل الأهم في تاريخنا. يمينه يميننا ويساره يسارنا، وكان هناك من يمسك بذيله منتظراً لمن تكون الغلبة. وكما أتوقع، هناك من دفعته حماسته الدينية إلى التبرك بحمار عائشة، بل والنوم قريباً منه من أجل الإنصات إلى أحلامه. كان نابوليون ينصت إلى أحلام حماره المصري مثلما كان ينصت إلى أحلام جنوده النائمين. لمَ لم ينصت زعماؤنا لأحلامنا؟ ألأنها لم تكن أحلاماً حميرية؟ مَن قال ذلك؟ كان الحمار في عراق السبعينات من القرن الماضي يحظى بالاحترام. ذلك لأنه كان يساهم في دورة الاقتصاد، في دولة صارت صادارتها من النفط تغرقها بالأموال. كان هناك من يفكر في الخلاص من زمن الحمير. لقد بلغت الحمير سن التقاعد وصار عليها أن تختفي من المشهد. غير أن ما جرى بعد ذلك صار يؤكد أننا كنا في حاجة إلى الحمير، لنتأكد من خلالها أننا لا نزال نقبض على شيء من إنسانيتنا. لقد صرنا محكومين من آلهات ترى في الحمار آلهة لها.

ترك حمار الحاكم بأمر الله صاحبه في جبل المقطم، غير أنه لم يكن يشعر باليأس أن هناك شعباً سيكون في انتظاره.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى