صفحات الثقافة

حلب.. جغرافية الأسرار

 

 نهاد سيريس

هنا في رود آيلاند الأميركية أستلقي في الفراش ليلا لأنام ولكن النوم لم يعد يأتي بسهولة فقد أصبحت الأخبار الواردة من حلب مدمرة للأعصاب.. فالحرب مستعرة هناك ومن بعيد تبدو الحرب الأهلية أكثر قسوة وأكثر تدميرا. أتقلب في الفراش وقد تعبت من مطاردة النوم وحيدا، فقد فارقتني زوجتي هدى قبل ست سنين والقلق على ابنتي وابني يتعاظم كل يوم. تحضرني توسلات ابنتي لي بأن أخرج من البلد وألتجئ إلى أي مكان مهما كان، فهم يغتالون النخبة لإلقاء اللوم على المعارضة. منذ أن خرجت من المدينة أصبح عنف النظام أكثر شراسة ولم تسلم مدينة في سوريا من آلة التدمير، أما الآن فالحرب تجري في أقدم مدن التاريخ وأكثرها غموضا.

أصيب مدخل قلعة المدينة بقذيفة هدمت جزءا من جدار المدخل. هذه القلعة التي تتوسط المدينة التي نمت وكبرت من حولها. إنها المكان الذي تتجمع فيه أسرار التاريخ. كنا صغارا حين كنا نتسلق الهضبة التي تتربع القلعة فوقها مشرفة على المدينة كصقر يحميها من فئران الظلام. حينها كنا نود أن نكتشف بعضا من أسرار القلعة. سمعنا الكبار يقولون إن هناك سردابا عميقا يصل القلعة بخارج المدينة، كانوا يستخدمونه لتزويد القلعة التي يحاصرها الغرباء بالمواد الغذائية الضرورية لاستمرار مقاومة الجنود المدافعين عنها. كان السكان ينتقلون إلى القلعة حين يداهمهم الأعداء فتغلق أبوابها ويستعد الرجال للدفاع عنها. كان هذا السرداب ضروريا أثناء الحرب وكذلك أثناء السلم ليهرب منه الملك حين يثور عليه الشعب للتخلص منه، كذلك كان طريقا يسلكه العشاق للدخول والخروج بشكل خفي. لم نكتشفه ولكن الجميع يعلم أنه موجود.

ثم إنني أتذكر يوما حين كانوا يهدمون منزلا عتيقا لإقامة مبنى حديث. كانوا يحفرون الأساسات حين انكشف سرداب معتم. كان هذا جزءا من قناة حلب التي تتشعب تحت بيوت المدينة كمترو الأنفاق الآن في بعض المدن. كان السقف القنطري مبنيا بالحجارة بينما المياه تسيل من منبعها لتنتشر في جميع أرجاء المدينة القديمة. كانت تلك اللحظة مهمة في حياتي كصبي فنزلت أنا ورفاقي لنتفرج. كان عالما سحريا ومخيفا في آن معا. غصنا في المياه التي كانت تأتي من قرية «حيلان» شمال المدينة بينما حفرت في كل بيت بئر تصل إلى القناة في الأسفل.

سجلت في روايتي «رياح الشمال» كيف أن الرجال كانوا يختبئون في البيوت هربا من فصائل التجنيد العثمانية التي كانت تبحث عن الشبان وتلتقطهم لسوقهم إلى الحرب العالمية الأولى. حين كان الشبان يشعرون بخطر مداهمة هذه الفصائل لبيوتهم بحثا عنهم كانوا ينزلون إلى البئر ليختبئوا في القناة بينما الجيران يدلون لهم الأطعمة بالحبال إلى أسفل بيوتهم. استخدم هذه الطريقة أيضا اللصوص والعشاق. كانوا يتسللون من الآبار ليلا ليقضوا حاجتهم ثم يهربوا بنفس الطريقة إلى عالم متشعب يقودهم إلى أي مكان يريدون. طرقات المدينة القديمة متشعبة بشكل غير منتظم والكثير منها لا يزيد عرضه على المتر ونصف المتر، أما أسطح البيوت فهي متلاصقة ومستوية ويسهل السير عليها والانتقال من سطح بيت إلى سطح بيت آخر، وهذا مناسب جدا للصوص والهاربين من الشرطة أو من الآباء أو الأزواج الغيورين.

سمعت مؤخرا أن المعارك بين جنود الحكومة والمعارضة تجري في المدينة القديمة مما أدى إلى تدمير عدد من البيوت هناك، هذا الخبر أرعبني وجعلني أتذكر زيارتي الأولى إلى حي بحسيتا الذي هو في قلب المدينة القديمة. حي بحسيتا هو الحي الذي زاره كل شاب مرة على الأقل في حياته. إنه حي متشعب بطرقات ضيقة وبيوت لا تختلف عن بيوت المدينة التقليدية الأخرى (وصفت هذا الحي في رواية «الكوميديا الفلاحية»).

أيضا تدفعني أخبار المعارك في سوق المدينة الأثرية واحتراق الكثير من المحال فيها إلى تذكر السوق فنحن في حلب نسمي هذه السوق بـ«المدينة» ونعتبرها عصب حياتنا. والمدينة هي شبكة من الطرقات الضيقة تتوزع فيها الدكاكين على الجانبين حتى لو كان الطريق بعرض مترين أو أقل. لكل مهنة سوق واكتشاف هذه الأسواق الـ37 رحلة جميلة كنت أقوم بها في الأيام التي تسبق الأعياد. إنها طرقات بطول ثمانية كيلومترات وتشغل مساحة سبعة هكتارات مغطاة بسقوف مقنطرة تنيرها نوافذ في الأعلى تسقط منها أعمدة أشعة الشمس بشكل بديع، بينما يحتل جزءا من هذه الأسواق أكثر من عشرين خانا بتصاميم معمارية أخاذة كانت يوما مراكز تجارية تستقبل القوافل التي تذهب وتأتي على طريق الحرير، بينما تعتبر اليوم المراكز التجارية والصناعية الأهم للاقتصاد السوري.

اكتشاف هذه الأسواق كان متعة أيام الصبا، ففي كل خطوة فيها كنت أكتشف سرا جديدا مدهشا، وخاصة «سوق النسوان». وقد أردت اكتشاف أسرار عوالم هذه الأسواق والخانات في قصة ممتعة فكان مسلسل «خان الحرير» التلفزيوني الذي رصد حركة الأسواق والخانات وسجل مكانتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في فترة الاضطرابات السياسية في الخمسينات وحتى بداية الستينات. وقد صور المسلسل في الأماكن الحقيقية، أي في الأسواق والخانات وطرقات وبيوت حلب القديمة التي تحدث الآن فيها معارك حربية تستخدم فيها القوات الحكومية الطائرات الحربية ومدافع «المورتر».. يا إلهي! والأمر لا يتوقف فقط على حجارة هذه المدينة المغرقة في التاريخ، بل إن مجتمع المدينة يحتفظ بأسراره لنفسه، وقد عجز الرحالة الأجانب في الماضي عن اكتشاف أسرار هذه المدينة بالشكل الأمثل، فما قدموه لقرائهم لا يعدو صورة للظاهر أما الباطن فقد بقي من دون اكتشاف.

كل ما أتمناه الآن ألا تكون كلماتي هذه عن مدينتي حلب شكلا من أشكال النعي لمدينة ميتة!

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى