حلب.. سقوط المذهبية والعسكرة/ ميشيل كيلو
ذاب الثلج وبان المرج، فإذا بواقع الفصائل المذهبية المسلحة هو النقيض المطلق لما كانت تدّعيه حول دفاعها عن الشعب السوري ضد الطغيان الأسدي. ومع أن كثيرين حذّروا الفصائل مراراً وتكراراً من العسكرة ومخاطرها، وفي مقدمها دورها في إضعاف قدرة الثورة على بلورة قيادةٍ سياسيةٍ، يلتزم القطاعان، العسكري والسياسي، بخطّها وقراراتها، فإن تحذيرات هؤلاء لم تحل دون طغيان العسكرة على السياسة، والتمذهب على مشروع الحرية، ونجاحها في إنهاك الحراك وإزالة طابعه المجتمعي والسلمي، فلا عجب إن أفضى وضعٌ هذه سماته إلى هزيمة حلب، وما ترتب عليها من حقائق منها:
أولاً، ارتهان الثورة للتنظيمات والفصائل المذهبية هو سبيل السوريين إلى الهزيمة، لأسباب بينها التناقض البنيوي بين هويتها ومشروعها وهوية الثورة ومشروعها، والقطيعة بين ممارسات فصائلها وما يتطلبه نجاح أي عمل ثوري/ وطني من برامج وخطط تكرّس لخدمة الحرية ومطالب الشعب، إن غابت، صار من المحال أن تلعب الفصائل دوراً يقطع مع بندقيتها المتمذهبة التي أخضعت المجال السياسي لفوضاها، وأسهمت في تهميشه، بدل أن تخضع هي له، وترى في السوريين شعباً واحداً، تستحق مكوناته جميعها الحماية، وليست طوائف ومذاهب وإثنيات مصطرعة مقتتلة.
ثانياً، انفكاك الحاضنة الشعبية المتسارع عن الفصائل المذهبية المتأسلمة الذي نلاحظه، خصوصاً لدى القطاع الشبابي، والذي يوجد ما يشير إلى أنه أخذ يجمع نفسه، ويتلمس سبل استعادة وحدته ورهانه الثوري الأصلي: الحرية للشعب السوري بصفته شعباً واحداً.
ثالثاً، تراجع خطاب التأسلم الفصائلي وواقعه، نتيجة هزائمه المتتابعة التي فضحت زيف وعوده بتحقيق الانتصار، ومقولاته عن الصراع السوري التي ترى فيه حرباً، هدفها انتزاع السلطة من العلويين، وإعطاؤها لأهل السنة، مثلما فضحت تناقض أيديولوجية الفصائل مع الإسلام وقيمه الإنسانية. وكشفت أخيراً ما أفضت إليه علاقاتها من قمع واضطهاد أسدي ضد مواطني المناطق التي تحكمها، وإذا كان لقادتها آذان تسمع، فلا بد أنهم سمعوا سيل الشتائم الذي انصب عليهم بعد حلب، واتهم معظمهم بالخيانة، وبأنهم اختراقات مخابراتية.
لئن كانت الفصائل المتمذهبة قد نجحت في خداع سوريين كثيرين بعض الوقت بشأن حقيقة مواقفها من قضيتهم، وأقنعتهم بأنها تقاتل دفاعاً عن الإسلام، فإن أكاذيبها انهارت تماماً خلال ما سمّته “ملحمة حلب الكبرى” وبعدها، حيث تبيّن أنها ليست إسلامية، ولو كانت كذلك، لما تطابقت نظرتها إلى الشعب وممارساتها ضده مع نظرة النظام الأسدي وممارساته، ولما تصرّف قادتها وأمراؤها، كما يتصرّف ضباط مخابراته الفاسدون والقتلة.
ثم، ماذا يمكن أصلاً أن تحقق للشعب فصائل يدّعي معظم قادتها أن سكاكينهم وسلاحهم ينفّذان إرادة الله ضد الكفرة والمرتدّين، أي الذين يرفضون نهجهم من المسلمين، ويقارنونه بنهج الرسول (ص)، الإنساني والرحماني، ويطالبونهم بالاقتداء به، إن كانوا مسلمين حقا؟ وماذا تستطيع قيادات فصائل تركها بعد حلب عدد كبير من مقاتليها أن تفعل، بعد اليوم، لإقناع الشعب بأهليتها لحمل آماله وتحقيق أهدافه؟ أسقطت حلب ورقة التوت عن عورات هؤلاء، وفضحت التناقض الكبير بين أقوالهم وأفعالهم، حتى صار من المستبعد أن يصدّقهم الآن مَن خُدع بهم البارحة، واعتبرهم المدافع الأمين عنه، فإذا بهم يسلمون حلب للنظام ويستسلمون له، من دون قتال، في عدد كبير من أحيائها، ويصعدون قبل مدنييها العزّل إلى حافلات الأسد الخضراء، ليغادروا المدينة بحماية من كانوا يعلنون، إلى ما قبل سويعات، تصميمهم على “الجهاد” ضده، إلى أن يطردوه من كل شبر في سورية، بينما كانوا يخونون كل من صعد إلى هذه الحافلات قبلهم، بمن في ذلك من تخلوا عنهم، مثل مقاتلي داريا ومواطنيها.
بسبب حلب، فقدت الفصائلية، بوصفها نمطاً من التنظيم العسكري، القليل من الصدقية العسكرية الذي كان لها، وغدت، في نظر أغلبية السوريين، مجرد حواضن للعنف والفوضى. لذلك، لن تبقى الثورة بعد حلب، إذا لم يتخلّ الشعب عن الفصائلية أداةً للصراع، ويستعيدْ، في الوقت نفسه، حراك الحرية المجتمعي والسلمي الذي صار أداتنا لإنقاذ شعبنا وثورته، وإلا كان انهيار العسكرة المتمذهبة في حلب انهياراً للثورة نفسها، وحلّت بنا الكارثة.
تلوح اليوم فرصة لاستئناف مشروع الحرية وحراكه المجتمعي، إن لم نفدْ منها فرّطنا، نحن أيضا بحقوق الشعب وثورته ووطنه. ماذا نحن فاعلون؟
العربي الجديد