«حلب في النصف الأول من القرن العشرين»: المهندس شارل غودار وسياسات الانتداب الفرنسي الحضرية/ محمد تركي الربيعو
حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت مدينة حلب قائمة داخل سورها المحصن. وما زالت بعض الأحياء تحتفظ بقدمها بوضوح، وبشوارعها الضيقة، وتحيط بها المنازل، ويندر أن يكون لها نوافذ على الشارع، لكنها في الداخل ذات باحة واسعة، وفي بعض هذه الباحات كانت توجد حدائق كبيرة.
لكن مع قدوم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أخذت المدينة تشهد امتداداً جديداً بسبب نمو الحركة التجارية، وأنشِئت أحياء سكنية جديدة في حلب خارج حدود المدينة القديمة.
وظهرت وسائل نقل «حديثة»: عربات تجرها الأحصنة ومركبات ثم سيارات وحافلات على سكة، وتلا ذلك إنشاء مركز جديد في باب الفرج اشتهر «ببرج الساعة»، تميّز بانتشار الأماكن العامة للخدمات والاستهلاك والاستراحة. ومما يلاحظه المؤرخون في هذا الجانب، هو أن الشوارع أصبحت أكثر عرضة وانتظاماً. إذ شوهدت لأول مرة المرائب والفنادق والمطاعم على الطريقة الغربية مما اعتبر ثورة آنذاك. وكان سكان المدينة يترددون إلى المقاهي الجديدة بينما تردد المارة والمسافرون إلى بعضها أيضاً؛ وبالمقابل، اتّصفت هذه الأماكن ببعض الاختلاط: فقد كانت النساء اللواتي يترددن إليها، بشكل خاص أجنبيات، وأيضاً نساء من أصول ريفية أو من البدو وعموماً ما يكنّ ضمن عائلاتهن.
وقد ازداد توسع المدينة خارج أسوارها مع النصف الأول من القرن العشرين، كما أخذ العديد من الأحياء خارج الاسوار التقليدية، مثل حي العزيزية والجميلية، يشهد مظاهر عمرانية واجتماعية جديدة؛ إذ امتلأت بالعديد من المباني الحديثة، وسكنها الموظفون ضباط الجيش الفرنسي، الذي أغروا المالكين بالبناء، ودفعوا لهم إيجاراً مجزياً. كما أخذت بعض العائلات المحلية تبني في هذه الاحياء بيوتاً تجمع كلا من الطرازين العربي والحديث تماشياً مع أنماط معيشة المجتمع والشبكات الاجتماعية المتغيرة.
ويعد كتاب «حلب في النصف الأول من القرن العشرين» للمهندس الفرنسي شارل غودار، الذي عمل في مدينة حلب كاستشاري في مصلحة بلدية حلب أثناء انتداب الفرنسيين للمدينة، من بين الكتب والوثائق الهامة التي توفر للقارئ معطيات دقيقة وغنية فيما يتعلق بالتطور الحضري للمدينة في فترة الثلاثينات والأربعينيات من القرن العشرين.
فالكتاب محاولة لرصد التحولات في المجال العام لمدينة حلب، ودور الفرنسيين في إعادة تخطيط المدينة وتشييد بعض الاحياء الجديدة. ولعل أهمية هذا الكتاب تكمن في أن المهندس غودار، قام بنشر ميزانيات ومعلومات تفصيلية عن مشاريع عمومية عديدة كانت تشرف عليها فرنسا في تلك الفترة داخل المدينة، ومعظم هذه المعلومات مأخوذة من محفوظات بلدية حلب في ثلاثينيات القرن العشرين، وخاصة من الناحية العمرانية، وقد جمعها ونسقها ونشرها في عام 1938
يذكر غودار في البداية أن عدد سكان حلب في فترة البحث التاريخي كان بحوالي ثلاثمئة ألف نسمة، بينهم مئة وثمانون الفاً من المسلمين ومئة وعشرون ألف مسيحي ويهود.
فعلى الصعيد الحضري للمدينة، يشير الكتاب إلى أن المدينة بدأت تتوسع نتيجة مجيء عدد كبير من الأرمن إلى هذه المدينة، ففي شمال حي العزيزية ظهرت أحياء الجابرية والسليمانية، وأبعد قليلاً نحو طريق حول البلدة، ظهرت تجمعات سكانية هامة حول منطقة الميدان، فلقد اهتمت عصبة الأمم المشكلة بمشكلة هؤلاء المهجرين، وأوضاعهم القاسية، فقررت تسهيل إقامتهم بشراء أراض قسمتها إلى محاضر، وقد استطاعوا بمهارتهم الاقتصادية والعملية، أن ينجحوا في بناء أعمالهم، وشيئاً فشيئاً استبدلوا بأماكن إقامتهم، التي كانت في براكات من الخشب والصفيح، منازل بنيت من الحجر.
ومن بين الشوارع الجديدة التي نظمت داخل المدينة، يأتي المهندس غودار على ذكر شارع غورو (المعروف حالياً باسم بارون)، إذ فتحت فيه المقاهي الرئيسية ودور السينما والفنادق والملاهي أيضاً، وفي نهايته كان يتقاطع مع شارع فرنسا (القوتلي حالياً). ونقطة التقاطع هذه لعبت دور المركز والساحة الرئيسية للمدينة الحديثة.
ومن بين ما يرصده الكتاب حول تطور المدينة العمراني، ما يتعلق بموضوع المجاري داخل المدينة. إذ يعد غودار أن قضية بناء المجاري من العوامل التي ساهمت في تطور حلب خلال تلك الفترة. خاصة «أن المجاري الضرورية هي معدومة تقريباً، والموجودة حالياً تعمل بشكل غير طبيعي» ص52. ففي المدينة القديمة تستعمل الأقنية القديمة كمجاري، حيث كان يستخدمها المدافعون عن القلعة للوصول إلى خارج المدينة. وقد كانت هذه الممرات الأرضية تصل أيضاً إلى حفائر ضخمة، تُطمر أحياناً، بيد أنها تشكل خطراً دائماً على الصحة العامة؛ ويجب أن نعلم، بكل الأحوال، أنه توجد شبكة من الأقنية القديمة تتيح تصريف مياه الأمطار، ولكن على حساب الصحة العامة لأنها مكشوفة.
أما في المدينة الحديثة، فقد بُنيت منذ سنوات، أجزاء من أقنية تجري نحو نهر قويق، ولما كان هذا النهر جافاً عدة أشهر في السنة، فإن تجمع وترسب مياه الصرف الصحي في بعض الأماكن، كان يشكل خطراً على الصحة العامة في المدينة. ولتفادي ذلك يوصي غودار ببناء أقنية تصريف في مجرى نهر قويق من الإسمنت، تتيح حتى في الصيف تصريف المياه المترسبة بواسطة مجرى خاص تخصصه شركة المياه والمستجرة من عين التل وقناة حيلان.
أما على مستوى الخدمات العامة والصحية للمدينة، فيؤكد غودار على أنه من أهم واجبات سلطات البلدية، والحكومات هي الاهتمام بالصحة العامة. «لقد كانت مشكلة توزيع صناديق قمامة صعبة الحل؛ ووضعت تجربة بوضع حاويات فنية موضع التطبيق، ولكنها سُرقت، ولهذا استعملت صفائح البترول توضع على أبواب المنازل، ولكنها سُرقت أيضاً، وأخيراً وُضعت براميل في أماكن عامة لجمع القمامة، وُضعت على حامل بثلاث أرجل»ص57.
شيء طريف آخر، يأتي على ذكره في سياق السياسات الصحية للمدينة، وكيفية تعامل سلطة الانتداب مع موضوع داء الكلب. إذ أنه يشير إلى الجهود التي بذلتها سلطات الانتداب في مطاردة وقتل الكلاب الشاردة، فيأتي، في هذا السياق، على ذكر إحصائيات مثل 415 كلبا تم حجزها و2978 قضي عليها بالرصاص و1544 كلبا سممت.
من بين الأمور التي يأتي على ذكرها الكتاب فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية للانتداب، هو ما يتعلق بنظام التلزيم، وهو نظام عثماني كان يقوم على بيع تحصيل ضرائب الدولة للمتعهدين مقابل مبلغ مقطوع سنوياً. وفي هذا السياق، يبدو من خلال غودار أن الفرنسيين قد أبقوا على هذا النظام في تحصيل الضرائب من الناس، فهو يؤكد بوصفه مستشاراً في الإدارة الفرنسية للمدينة على وجوب تجهيز موظفين جباة جديرين وأمناء، «فمن غير الطبيعي أن تفرض وسيطاً بين دافع الضريبة والمدينة. وسيطاً ينتظر الإفادة واقتناص الظروف.. وعلينا أن لا ننسى أن المدينة بجبايتها الرسوم من المواطن ترد هذه الرسوم له بشكل أعمال، وإدارة جيدة وراحة وغير ذلك» ص91.
أما فيما يتعلق بالرسوم الجديدة التي فرضتها السلطات، يذكر غودار تفاصيل دقيقة في هذا الشأن. فهناك رسم للبسطات، وآخر للدعاية. كما فرض رسم للطرق والأرصفة والمجاري. ورسم لاستهلاك المشروبات والحفلات والعروض، والطريف هنا أيضاً رسم على تربية الكلاب، وعلى امتلاك الدراجات الهوائية والنارية. فمثلاً كان الرسم على الدراجات الهوائية 144 فرنك، وعلى الدراجات النارية حوالي 160 فرنكا في العام. بينما تخضع الكلاب المقتناة إلى رسم سنوي مقداره ثلاثون فرنكاً، وكان العائد السنوي من هذا الرسم يقدر بـ 6000.
وعن سياسات المرح في تلك الفترة داخل المدينة، يذكر غودار أن في حلب عددا كبيرا من المقاهي يتجاوز الألف مقهى، نُظِّم ثلاث أو أربع منها فحسب على الطريقة الأوروبية. توجد هذه المقاهي في أغلبها في شارع الجنرال غورو (البارون). كما يوجد في حلب عدد كبير من المقاهي الكبيرة والصغيرة، وهي أحياناً طريفة، يرتادها الحلبيون لاحتساء العرق والقهوة.
وفي فترة الصيف تفتح مقاه في الهواء الطلق، وخاصة على أطراف شارع فرنسا (القوتلي)؛ ولترفيه الزبائن يتعاقد أصحاب المقاهي مع مغنيات وراقصات، وتصبح هذه الملاهي، ملاهي للعرض والغناء، ولكن بمظاهر شرقية حتماً.
كما كانت توجد في المدينة ثلاثة أو أربعة نواد ليلية (كاباريه) شبيهة إلى حد ما بما كان سابقاً في حانات أوروبية، والراقصات فيها غالباً من أوروبا الوسطى. ولا يجري التصفيق إلا نادراً. وبشكل عام يؤكد غودار على أن الآنسات الدانوبيات (من منطقة نهر الدانوب) هن جميلات ومقبولات جداً من قبل جمهور المتفرجين المحليين، أكثر.
كما لعبت السينما دوراً مهماً في سياسات اللهو داخل المدينة؛ إذ بدأت دور السينما تزداد عاماً بعد عام، وقد وصل عددها وفقاً للمهندس الفرنسي في تلك الفترة إلى ثماني دور هي روكسي، وامبير، ديانا، ركس، رويال، فاروق، الباريسانا، الشرقية، سينما الشرق والأكثر ارتياداً وشهرة، الثلاث الأولى، وكانت تُعرض فيها أفلام حديثة. كما كانت تُعرض في هذه الدور من وقت لآخر أفلام مصرية، لكن أغلب الأفلام المعروضة كانت باللغة الفرنسية. كما كانت أحيانًا امريكية مع ترجمة بالفرنسية، لاقت نجاحاً في فرنسا، ولكن بعد عرضها ببعض الوقت. وهكذا غدت دور السينما تجارة رابحة في حلب التي تقاسمت هذا النوع من المتعة.
٭ كاتب سوري
القدس العربي