حلب: ماذا تُثير زيارة كلية الفنون من أسئلة؟/ عزيز تبسي
نعبر خارج الحرب، أو بتعبير أدق، خارج جبهات القتال. تتغيّر كل يوم أحوال الشوارع: جرافات ترفع الحواجز الباطونية تجهيزاً لمرور السيارات والشاحنات، رافعات تتبعها شاحنات لحمل الأكشاك بعد إلغاء تراخيصها، كثافة حضور للقوى الأمنية بأسمائها المتعددة في مواقع الازدحام المروري والنقاط الحيوية، الغاء تجمعات الباعة الجوالين بعد أن توطن كثيرٌ منهم في مواقع تحوّلت إلى أسواق أمر واقع، إذ استولوا على الأرصفة والشوارع والفسحات الحيوية في حركة حافلات مؤسسة النقل الداخلي والسرفيسات الخاصة.
هذه التغيرات التي شملت تنظيم الحركة والنشاط داخل المدينة وضبط المخالفات والتجاوزات تُشكّل جزءاً من إجراءات عديدة لتذكير قوى الأمر الواقع بحضور الدولة وبقوّة أجهزتها.
***
قسمنا الطريق الطويل إلى كلية الفنون الجميلة إلى قسمين غير متساويين. مسافة نمشيها صعوداً نحو الساحة المقابلة لفندق “بولمان الشهباء”، بينما نكمل المسافة الباقية بالسرفيس.
لم تبارح الحيوية صباحات المدينة، كلٌ في مكانه وزاويته: باعة قهوة الإكسبريسو، القهوة العربية المُرّة، بسطات الدخان، فطائر الزعتر والجبنة والفليفلة، عربات السحلب، عمال التنظيفات خلف مكانسهم، والشحاذون…
يسير أغلب طلاب الجامعات والمعاهد إلى امتحاناتهم وهم يعبرون بنظراتهم الخاطفة على أوراق ملخّصات
دروسهم وكتبهم، بمنهجية تعليمية متوارثة، أساسها المتين هو الحفظ في البيت أو قاعة المطالعة والتذكّر في قاعة الامتحان. يضع عدد قليل منهم سماعتي الموبايل الذكي في آذانهم، حاملين كوب قهوة الإكسبريسو في يد وسيجارة مشتعلة بين أصابع اليد الأخرى. يُتابعون طريقهم بثقة العارف مصيره، حيث لم يعد خافياً أن معظم الذكور يتابعون دراستهم للحصول على تأجيل الخدمة العسكرية.
الكلية الجامعية مكان ينتمي لحداثة مصطنعة، كما هو عموم الإطناب الحداثوي الشكلي الذي طالما تجنّب الاصطدام بالفكر التقليدي، والسعي وفق خصيصة عتيقة للتفاهم معه، بعد أن بينت الوقائع أن كل فعالية حداثوية قابلة للنكوص والارتداد إلى ما قبلها. مجتمعات تسير على “البركة”، بركة التحالف الراسخ بين الجيش وأجهزته الأمنية والمؤسسات الدينية.
***
لم يُحسم بعد فقهياً (على الأقل) جواز الرسم والنحت. بسرعة حسم الفقهاء في أواخر القرن التاسع عشر، جواز تناول البندورة الحمراء التي اعتبرها بعضهم دسيسة الفرنجة للأخذ بعقول المسلمين، وآثروا لحين حسم النقاش والحصول على البراء، تناول البندورة الخضراء. فضلاً عن الحرب الفقهية في القرنين السابع عشر والثامن عشر حول تحريم التبغ والقهوة والعودة للسماح بتعاطيهما..
الموضوع أعقد مع الرسم والتشبيه، كما مع النحت الذي يشير إلى الأصنام التي حطمها إبراهيم الخليل وعاد لتحطيمها الأنبياء الذين أتوا بعده بألفي عام. هذا وقد بيّن التاريخ أن تحطيم أصنام الحجر والبرونز والرخام أسهل بكثير من تحطيم الأصنام الأخرى.
انتصرت البندورة كما انتصر قبلها التبغ والقهوة. لكنّ الحداثة اليتيمة، المؤسَّسَة على العقلانية والديموقراطية والعلمانية، لم تُبصر فجر انتصارها بعد.
فما هي الحدود المتبقيّة لصيانة ــ ترميم أو حماية ــ الجماعة الناجية من الموت؟ لا يُترك للناس سوى الترحّم على الموتى وذكر محاسنهم، وشكر النعمة التي أبقتهم على قيد الحياة.
من الواضح أنّ حماية وجودهم المثخن بالجراح والحروق والكسور، يتناسى حماية حريتهم واختياراتهم وتفضيلات مسالكهم في الحوار، بما يتضمنه من رفض كلّي للأفكار المقدّمة، أو القبول الجزئي بها.
نحكي هنا عن حماية قناعاتهم الراهنة، والاستعداد لحماية التغيرات التي تطرأ عليها بتأثير القراءة والحوار واستقبال المعارف الجديدة. ولأننا سنكون بعد دقائق في كلية جامعية مكرسة للفنون، نسأل تُرى ما هو دور الفن في الحرب عموماً، والحرب الأهلية على وجه الخصوص؟
أجتهد للإجابة على هذا السؤال منذ سنوات. دور الفنّ في الحرب، ابداع كل ما يؤكد رفضها والتعاطف التام مع ضحاياها، والأخذ بالدعوة المثالية لاستئناف الصراع من دون سلاح وقتال، من دون الاكتراث لأحوال بلاد مثقلة بالأزمات وأنماط التعبئة الغريزية المتوضّعة على الدين بتجلياته الاجتماعية، الطائفة والمذهب والعشيرة، فضلاً عن توضع استثمارات الصراعات الإقليمية والدولية على الوحدات الاجتماعية.
تحضر المقدمات التعبوية للحرب الأهلية في كلّ مكان: أثناء مشاجرات الأسواق المزدحمة، في جلسات المصارعة الحرة على القنوات الفضائية المُدرجة تحت اسم “حوارات ديموقراطية”، في مباريات كرة القدم التي عقد عليها ميخائيل غورباتشوف، أمين عام الحزب الشيوعي السوفياتي، آماله بعد إطلاقه البيروسترويكا: تحويل الصراع بين الاشتراكية والرأسمالية إلى صراع سلمي، كما مباريات كرة القدم.
***
ما الذي يدفع شبان وشابات في مقتبل العمر الى المجازفة بمستقبلهم/هنّ مع فنون لا تحظى بالشرعية الدينية؟ وخاصّة وأن هذه الشرعية تُهيمن على الثقافة الشعبية وتكسيها بالشرعية الاجتماعية بغياب أي حماية أخرى، حقوقية – سياسية. ما الذي يدفعهم للمجازفة في زمن لا يحجب نواياه الإقصائية لكل ما يخالفه؟ تحطيمٌ للتماثيل والمنحوتات والنقوش وزخارف الفسيفساء، تفجيرٌ للمتاحف والمعابد والهياكل.. ما هي إلاّ تعبيرات رمزية لذكرى الشعوب والحضارات التي أنتجتها. ألم يُتابع الطلبة ما حصل في مدن نينوى وتدمير عشرات المواقع الأثرية، أيّ تدمير كلّ ما يمت للنحت والنقوش والزخرفة بصلة.. ثمّ توسعت العملية في مدينة حلب لتشمل عشرات الأضرحة والمساجد والجوامع.
أهي مجازفة أم أنّهم فعليّاً في إغفاءة عميقة وضعتهم خارج الزمن الذي يسيل حولهم؟ ما حجم قوة الأمل التي تسكن نفوسهم حينما يُصرون على الرسم والنحت، وهم أسرى قوة العطالة التي تدور حولهم وحول نفسها، ولا تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
من الممكن استرداد رهان أرسطو المثالي، تطهير الانفعالات بالدراما ودفع الإنسان للتغلب على الهلع والشفقة ليتمكّن من التحرر من الواقع البائس والسمو إلى ما فوق ظروف القدر العمياء.
يبقى الرهان على الفنّ رهاناً مشروعاً، رهانٌ يكتسي بالهاجس الوجودي، به وحده يمكن الوصول إلى مخارج أقل وحشية ورعباً بل وأكثر جمالا من حصار القباحة. لكن آمال شعوبنا لا تتطهر بهذه الدراما.. ربما لآن آمال الشعوب أعلى من الدراما، وجروحها المتقرحة أعمق من أن تصلها قطرات السبيرتو.
السفير العربي