حلف اللدودين وتحديات أميركا/ مصطفى كركوتي
في ساحة حرب يفرد الرعب ظلاله فوقها لانعدام القواعد التقليدية فيها، يقدم الشرق الأوسط جملة من التحديات ذات طبيعة تاريخية واستثنائية لشعوب دوله وجواره القريب والبعيد، بما في ذلك أوروبا والولايات المتحدة. وما الهجوم الإجرامي على مكاتب مجلة «شارلي إيبدو» الساخرة في باريس إلا تعبير متوحش عن أحد هذه التحديات. دولتان فقط، بكل ما لديهما من قوة وتأثير، تقفان الآن على مسافة واحدة إزاء هذه التحديات، لا سيما لجهة الفعل والتأثير، سلباً أو إيجاباً: إيران والولايات المتحدة. في مركز هذه الساحة، حركة «الدولة الإسلامية» وسيطرتها على أراضٍ واسعة في سورية والعراق وحربٌ أهلية في البلدين: معْلَنة في الأول حيث يسعى جُلَّ المتحاربين لتحقيق إسقاط النظام، ومكتومة في الثاني في إطار واهن من تحالفات طائفية- قومية بين سنّةٍ وكرد في الشمال وشيعةٍ في مركز وجنوب بلدٍ صاغت الإدارة الأميركية إطاره الدستوري إثر إطاحة صدام حسين قبل 13 عاماً.
في هذه الساحة، كل ألوان التوحش والمكر حيث تقود طهران عملية نشطة وفاعلة من خلال إدارتها ومشاركتها مباشرة في حرب بغداد، وعلى نحو غير مباشر في حرب دمشق. فالحكومتان العراقية والسورية تتمتعان بدعم إيراني غير محدود: بالنسبة إلى بغداد هناك دعم عسكري وبشري غير سري على مستوى عالٍ. وإذا صحت تقارير منسوبة إلى تنظيم «الدولة» ادعت قتل جنرال إيراني من «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري خلال معركة السيطرة على منطقة السامراء في وسط العراق مؤخراً، فهذا يؤشر إلى حجم وطبيعة العون المباشر لبغداد. أما في سورية، فالدور الإيراني يُعبِّر عن نفسه بتدخل مباشر تحت راية ميليشيا «حزب الله» اللبنانية، حيث بات دورها في إنقاذ النظام مما لا جدال حوله. وتلعب إيران هذا الدور المهم تحت سمع وبصر الولايات المتحدة والغرب، ما يجعل البلدين اللدودين شريكين في حلف يطلق عليه مسؤولوهما «الحلف الواقعي» لمواجهة أخطار مشتركة.
هذه العلاقة «الواقعية» تأتي في وقت لا تزال جملة من الخلافات المعلنة بينهما تنتظر حلولاً، ما يزيد من تعقيد المسألة، مثل اتهام واشنطن لطهران رسمياً بتأييد الإرهاب والعداء المعلن لإسرائيل بالإضافة طبعاً إلى القضية الأهم: الملف النووي. وتضيف هذه العلاقة «الواقعية» تعقيدات أخرى لخلافات واسعة بين واشنطن وعواصم أخرى في الخليج وتركيا جراء مواقفها الملتبسة من نظام الرئيس بشار الأسد، في ظل صراع أهلي داخلي ومأسوي لا أحد يستطيع التنبؤ كيف سينتهي. والواقعية تشير هنا، في قاموس السياسة ووصف الحلف الإيراني الأميركي، إلى طبيعة متغيرة ومرحلية تفرضها مصالح الوضع الراهن، وهي مصالح تخضع بطبيعة الحال لديناميكيات متحركة. فما هو «واقعي» الآن في ظل الظروف الراهنة قابل للتغيير في ظروف مختلفة. ولعل هذا الوعي لهذا الواقع من الطرفين يمنحهما القدرة على ممارسة ديبلوماسية اللحظة الأخيرة إذا لم تعد واشنطن، مثلاً، تجد غضاضة في التمديد للاتفاق المرحلي مع إيران حول ملفها النووي.
فلكل طرف تبريره في التحالف أو الاختلاف مع واشنطن وفق مصلحته. فعلاقات تركيا مع الولايات المتحدة مثلاً مرتبكة لأن أنقرة وعواصم خليجية أخرى تعتبر إزاحة الأسد أولوية تسبق هدف هزيمة تنظيم «الدولة». أضف إلى ذلك موقف تركيا التاريخي من المسألة الكردية، كما عبر عنه أولاً ترددها في السماح لمقاتلي ميليشيا البيشمركة العبور إلى كانتون كوباني السوري المجاور لحدود شمال تركيا، وثانياً رقابتها المشددة على عدد هؤلاء المقاتلين ونوع أسلحتهم. وقد أبدت القيادة الكردية في إربيل حكمة ووعياً في إدارة المسألة لإدراكها العميق حساسية حكومة الرئيس رجب طيب اردوغان لموضوع الأقلية الكردية الكبيرة في شرق وجنوب تركيا المجاورين لمناطق أكراد العراق وسورية.
على خلفية هذا الواقع، هناك حراك فلسطيني على المسرح الدولي سعياً وراء الاعتراف باستقلال دولة فلسطين عطّله الفيتو الأميركي في الدرجة الأولى، ويأتي ذلك بعد حرب طاحنة بين إسرائيل و»حماس» في قطاع غزة. وبانتظار حكومة إسرائيلية جديدة تلي الانتخابات العامة في آذار (مارس) المقبل، يتوقع أن تفتح الباب عريضاً أمام حكومة متطرفة قد تجعل حكومة نتانياهو الراحلة تبدو معتدلة. وقد يحمل هذا التغيير توجها تلوح ملامحه الأولية نحو المزيد من التوتر في العلاقات بين إدارة أميركية متحررة من ابتزاز اللوبي الإسرائيلي التقليدي وحكومة إسرائيلية جديدة، إذ بدأت أصوات قليلة في واشنطن وحتى داخل جاليات يهودية أميركية تحذر من أن استمرار دعمها لإسرائيل مرتبط بسلوك هذه الأخيرة في المستقبل. بعبارة أخرى، تستطيع إدارة أوباما في عاميها الأخيرين أن توجه إصبع التحذير إلى إسرائيل حرصاً على مصالحها وعلاقاتها مع حليفها الجديد في المنطقة.
فعلى رغم سيطرة الجمهوريين الكاملة الآن على مؤسستي الكونغرس، أظهر أوباما أخيراً حركة واسعة في حيز السياسة الخارجية صادماً بذلك مؤيديه المنتقدين وخصومه المعارضين، حيث تساءل كثيرون عما إذا كان يمتلك القدرة اللازمة لترك بصماته على مشكلات العالم المتأزم. فقد فاجأ أوباما الجميع بإحداثه نقلة تاريخية عندما أعلن عن سياسة جديدة تجاه كوبا بعد قطيعة دامت نصف قرن وكادت خلالها أن تتطور إلى حرب كونية نووية في عهد الرئيسين كينيدي وخروتشوف مطلع الستينات.
وعلى رغم اختلاف الآراء حول العلاقة مع إيران، يرى أوباما فوائد لدورها في بغداد ودمشق. فطهران تملأ فراغاً أمنياً كانت تشغله القوات الأميركية في العراق، كما أن واشنطن ربما لم تعد ترى، منذ تمدد تنظيم «الدولة» في العراق وسورية، ما يضير أن يلعب «حزب الله» دوراً حامياً لنظام الأسد أقله في هذه المرحلة. كل هذا يجعل من الحراك الديبلوماسي تجاه إيران تحدياً ضخماً لما تبقى من عمر إدارة أوباما الذي بات يجد أيضاً في غريم حلف الناتو في أوكرانيا وأوروبا، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حليفاً محتملاً في وقت قريب للتفاهم على مستقبل سورية والعراق.
الحياة