حلم الثورة
خليل النعيمي
حلم الثورة هو ألاّ تدوس على جثث شهدائها من أجل حفنة من الامتيازات. ألاّ تزحف منحدرة نحو الحضيض. ألاّ تعود خاسئة على أعقابها، وقد حَسِبَتْ أن المغامرة الثورية، مجرد مسامرة. ألاّ تكتفي من ‘الغنيمة اللاثورية’ بالإياب. ألاّ تتحوّل، في النهاية، إلى ثورة مضادة.
لقد تَعَفَّن العالم العربي من طول الركود. واهترأ من عمق السكونية الإجتماعية التي فُرضَتْ عليه بقوة القمع المعمم. وتلاشَتْ جذوته بتأثير الألاعيب السياسية، والأكاذيب الحداثية. ومَلَّ من النظريات الثورية المزيفة. وعانى كثيراً من تعميم الجهل. وفي وضع مرعب مثل هذا، ماذا بقي أمامه غير أن يثور؟ لم تعد ‘أمنية التغيير’ كافية. فقد تمنَّيْنا بما فيه الكفاية.
حلم الثورة السورية هو تحقيقها. هو أن تكون موجة عظمى من أمواج الثورات التي بدأت تخلخل بُنى العالم العربي الراسخة في ركودها. أن تزيح وريث الطغيان، وأن تضع مصير البلاد بين يدي الشعب. أن تنهي قرناً من التردد والإستلاب والممالأة. وأن تفتح، بروحها الثورية وعقلها النقدي، قرناً جديداً.
إبداع الثورة، مثل مآلها، ليس بين أيدي مَنْ يدّعونها (من أمثالي). ولا هو بأيدي مَنْ ينأون بأنفسهم، تعفُّفاً وكذباً، عن الإنغماس في حمأتها، والمشاركة في أحداثهاً (فعلاً، أو قولاً، لا بأس). وإنما بأيدي مَنْ يحققونها، أياً كانت صفاتهم التي قد لا ترضي الآخرين.
الثورة قيامة. وهي، في حقيقتها، خليط. خليط بشر، ومفاهيم، وأطروحات، وآمال، ومزاعم، ومشاعر، وأحداث، وموت. إنها الحياة، معجونة بمصائر الثوّار. هي لا متجانسة بطبيعتها. وهذا اللاتجانُس، هو الذي يعطيها ميزة أن تكون ثورة. الطغيان، وحده، متجانس. وعنفه يكمن في وحدانية تجانسه المقيت. وحلم الثورة السورية تفتيت هذا التجانس، وتدمير وحدانية الطاغية، واستبدالها بتعددية الناس.
تصوَّروها متجانسة، على أي وجه شئتم! تلك هي الكارثة. أما الذي يريدها ‘ثورة محض’، و’بلا شائبة’ بأي معنى كان، علمانياً، أو دينياً، أو إلحادياً، أو طبقياً، أو … فهو لا يفقَه من أمر الثورات شيئاً. وهو، في النهاية، مُزاوِد وصغير. صغير العقل، لاصغير الضمير فقط. ولا بُعْدَ تاريخياً لمنظوره، خارج الإنتماء إلى الفكر التقليدي البائد: فكر القرون الاستعمارية الأولى، في أحسن الأحوال.
للثورة، اليوم، مهمة واحدة : إزالة الطغيان الجاثم على نفوسنا، حتى ولو جاءت بطغيان ‘جديد’. وكلمة الــ’جديد’، هذه، ليست عبثاً، ولا هي مخيفة. لأنها قد تحدث، فعلاً. ولأننا نكون قد تعلَّمنا مقاومة الطغيان. وتدرَّبنا على إزاحة الطُغاة، وبالخصوص الجُدُد منهم. وعلى أية حال، ما سيحدث هو مهمة ‘ما بعد الثورة’. فلا تقحموه اليوم في مسار الأحداث، ولا تجعلوا منه عائقاً مزعوماً في وجه المسيرة الثورية المنتصرة لا محال.
لا تبرروا تقاعسكم عن المساهمة في الثورة، لا بالدين، ولا بالأخلاق، ولا بالمواقف الكاذبة حول حرية الرأي. ولا بالخوف من ‘المجهول’. كل شيء في الثورة معلوم. الثورة لا دين لها، ولا دولة. إنها حركة الشعب الآسرة، بعد أن تحرَّرَتْ مخيلته الثورية التي لن تُكبَح، بعد أن وَعَى، أخيراً، مأساة الطغيان، و فداحة القمع. ومنذ أن اشتعلَتْ ‘نار الفتنة الثورية’ فهي لن تَخْمُد، قبل أن تُطْفِيء، نهائياً، جَذْوَة القمع التي خَرَّبَتْ كل شيء، على مدى عقود. فلا تنتظروا الاستسلام!
الثورة قدر الشعب. ومصيرها مصيره. مثقفو الأمس، و سياسيو البارحة، ومهرِّجو وسائل الإعلام، و… لا يستطيعون أن يحيدوها عن الطريق. اللعب على العواطف البائسة لم يعد مجدياً، بعد أن شبعناً بؤساً. والمواقف الرخوة، حتى ولو كانت معقولة، لم تعد تناسب المقام.
الثورة حَسْم وقطيعة. وليست تمَلُّقاً واستجداء. وما تريده لا يؤخذ بالتراضي، ولا بالمقايضة، ولا بالمفاوضة. الشعب السوري العظيم، بعد أن تجاوز مرحلة العَطَب العميق الذي كان يشلّ إرادته، لم يعد يرضى بأقل من تحقيق ما يريد تحقيقه بشكل كامل، ونهائيّ. وما يريده هو ما حلم به باستمرار. وهو لا يمكن أن يكون مجتزأ، أو منقوصاً، أو مشروطاً.
حلم الثورة، كلمة واحدة: الحرية.
القدس العربي