حلم طفلة كرتونية
سلام الكواكبي
حفلت تونس المتحررة من طغيان الديكتاتورية بالكثير من الأحداث منذ التنحي الشهير وحتى يوم الانتخاب المثالي في 23 أكتوبر الماضي، وتنوّعت هذه المراحل واختلط فيها الإيجابي مع السلبي في مؤشر صحّي لتنوّع الرؤى وفتح المجال أمام الصوت المكبوت طوال عقود بالتعبير كيفما شاء فظهرت الاجتماعات الحزبية والمدنية التي أبرزت وعياً نخبوياً لم يكن أحد يشك بتواجده في الساحة التونسية رغم القمع الممتد وكذلك، عادت للبروز قوى إسلامية معتدلة تم إقصاؤها طويلاً عن ساحة العمل العام، وحاولت بدورها أن تطور خطاباً تجميعياً وتوافقياً في إطار مكتسبات المجتمع والثقافة التونسيين،·وبالمقابل، تم إفساح المجال أمام قوى ظلامية تتمطى مفهوم السلفية، والسلف الصالح منها براء، التي أضحت تمارس شيئاً من صلاحيات ميليشيات ”الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” السعودية سيئة الصيت، وصالت وجالت في الأرض التونسية فساداً. وفي هذا الوقت، برزت فطور الحزب البائد محاولةً التنكر بأزياء مختلفة، فمنها من أسس لأحزاب جديدة تحت مسميات متعددة، ومنها من أطلق اللحى ليتقرب من هذا التيار الإسلامي أو ذاك، ومنها من اخترق حتى الأحزاب العلمانية التي كانت محسوبة على المعارضة إبان عسف بن علي في محاولة لتبييض الماضي والعودة إلى ساحة الفعل السياسي. إضافة إلى هذا وذاك، تستمر الاحتجاجات القطاعية أو الفئوية، ولو أن حجمها قد ضئل، في التعبير بحرية كبيرة عن نفسها في الساحات العامة أو في مدن الداخل التي ما زالت تشعر بأنها بعيدة أو مبعدة عن مكتسبات الثورة· يجري ذلك كله، وكأننا في مختبر سياسات يبشّر بغدٍ أفضل على الرغم من التحديات والصعوبات والعوائق الذاتية والموضوعية، وعلى الرغم من رغبة البعض بالاستئثار بالساحة السياسية ومقاومة البعض الآخر حفاظاً على روحية الثورة وحمايةً لأهم ما حملته من مبادئ وهو مبدأ الحرية.
أما وسائل الإعلام والإعلاميون كافة، وبعد التخلص من ماضٍ حالك، يجدون أنفسهم أمام تحديات جمة في المرحلة المقبلة، حيث أن بعضهم مارس بصعوبة شديدة أو سراً إعلاماً نقدياً، أو أنهم مارسوا إعلاماً تملقيّاً يعتمد اللغة الخشبية لإرضاء السلطان وحاشيته ومحظييه، أو أنهم انكفأوا إلى الأبحاث العلمية محدودة القراءة، أو أنهم حاولوا الحفاظ على الحياد، ولا حياد في موضوع الديكتاتورية أبداً بعد الثورة، رمت وسائل الإعلام نفسها، وباتجاهاتها كافة، في بحر حرية التعبير، فمنها من كان يكتنز معرفة بالسباحة وبعضها الآخر بدأ في ”التخبط” درءاً للغرق في مياه عميقة· وعادت بعض أقلام السلطان لتحاول تغيير لون جلدتها ولتتبنى خطاباً ديمقراطياً كان بعيداً عنها طوال عقود، وأطاحت بعض الأقلام بلبوس العلمانية والتحرر الفكري التي كانت تخفي بها ما هو ظلامي ومتخلف في ذهنيتها المتأتية من تقاطع بين الفكر المتحجر وسنوات القمع.
في هذا المخاض الذي تمتزج فيه الإيجابيات بالسلبيات، استطاع الشعب التونسي أن يثبت بأنه أهل للثورة ولقيمها وخاض انتخابات مثالية وأتى بحزب النهضة إلى سدة المواجهة مع تحديات عملية البناء المقبلة· لم يكن التونسيون بغالبيتهم راضون عن هذه النتيجة وشعروا بخوف على مكتسباتهم، ولكنها اللعبة الديمقراطية وعليهم خوضها في كل تفاصيلها وباحترام قواعدها للوصول إلى غدٍ أفضل على هامش الأحداث، أو في صلبها، لم نعد قادرين على التحديد، ثارت أقلام وأصوات ”وأيدي وأرجل” البعض من المجتمع التونسي على عرض قناة ”نسمة” لفيلم رسوم متحركة بعنوان ”برسيبوليس” أخرجته فنانة إيرانية حول وضع المرأة في إيران ما بعد الثورة· وهي تعرض من خلاله العديد من الأمور التي تحيط بحياة المرأة في إيران. ولكن ما أثار البعض، وأغلبهم ممن لم يشاهدوه وإنما سمعوا عنه ”قالولو”، هو مشهد من خلاله يراود طفلة صغيرة حلمٌ ما أخاله ابتعد عن مخيلة أحد ما في طفولته، وهو الحديث إلى الخالق تعالى ثوانٍ ليس إلا في فيلم رسوم متحركة، أثارت المظاهرات التي توجهت إلى بيت مدير القناة والاعتداء عليه وحرقه وانتشرت في شبكات التواصل الاجتماعي دعوات التكفير والعقاب على من تجرأ وعرض الفيلم، وهو بالمناسبة من أروع الأعمال الإبداعية وحاز على جوائز عديدة ولا هجوم فيه البتة على الدين وإن حمل نقداً واضحاً لاستغلاله وتسخيره لمآرب وضيعة وربما أن هذا الأمر قد توضّح لمن أثار الفتنة من المنتقدين، فوجدوا أن استغلالهم للدين وتسخيره للوصول إلى أهداف سياسية قد جرى عرضه مبسطاً في عمل فني، فثارت ثائرتهم ”ويا غيرة الدين”. وقد تقدم بعض المحامون بدعوى أمام القضاء التونسي ضد القناة ومديرها متهمين القناة بالنيل من الشعائر الدينية ”عبر الصحافة أو وسيلة قصدية من وسائل الترويج وعرض شريط أجنبي على العموم من شأنه تعكير صفوة النظام العام والنيل من الأخلاق الحميدة” كما جاء في العريضة الاتهامية.
رسوم متحركة تم عرضها في عديد من الدول الإسلامية أو التي دين شعوبها الإسلام، ولم يثر حفيظة أحد إن من يدّعي غيرةً ”جاهلية” على الدين الإسلامي من فيلم أو من عمل فني، يساهم في توجيه أشد الشك في قوة هذا الدين كمنظومة أخلاقية وعقائدية الذي يخشى أو يتأثر معتنقوه بهوامش فنية أو كتابية ليعدلوا عنه أو ليتأثروا سلباً في مشاعرهم. إن تكرار هذه الأحداث، وهي عديدة في الكثير من الدول على الرغم من حداثتها في تونس، مؤشر خطير على ضعف ثقة من يريد أن يسيطر على المؤمنين والمؤمنات: في إيمانهم، وفي نفسه، وفيما يؤمنون به· ومن المؤسف حقاً، بل المشين، أن تنبري بعض الأصوات اليسارية العلمانية إلى الانضمام إلى جوقة النشاذ التكفيري باحثة عن مكان لها في ساحة الغوغاء بعد أن فقدته بسبب ترددها أو تخبطها أو تعاونها، ربما.