حماية الأدب من الحرب/ جورج أورويل
من بين الأشياء التي تقف ضد الكاتب، أن اهتمام الصحافة غالبا ما يملك من طرف عدد قليل من الرجال الأغنياء الذين يحكمون قبضتهم أيضا في الإذاعة والأفلام مستغلين عدم رغبة الجمهور في إنفاق المال على الكتب، الشيء الذي يؤدي بالكاتب إلى التقرب من الرجال الأغنياء بغية كسب عيشه، وذلك ما تعمل عليه الجهات الرسمية مثل وزارة الداخلية والمجلس الثقافي. الأمر يساعد الكاتب على العيش ولكن في الوقت نفسه يخسر وقته لإملاء آرائه المزيفة لمواكبة جو الحرب المستمرة بآثارها المشوَّهة حتى فكريا، حيث لا أحد قادر على الهرب. كل شيء في عصر المادة يتآمر على تحويل الكتاب وباقي الفنانين إلى موظفين صغار، يعملون على الموضوعات التي تصدر من فوق وفق ما تطلبه سياسة القادة ولو على حساب الحقيقة، المهم طمأنة الجمهور.
في هذه المرحلة من التاريخ، حتى أكثر الحكام الاستبداديين أجبروا الكتاب على مراعاة الواقع المادي، جزئيا بسبب العادات الليبرالية العالقة للأفكار وأيضا بسبب الحاجة للتحضير للحرب.
في الحرب، ولكي تمتحن حقك في حرية التعبير عليك أن تواجه الضغط الاقتصادي وتقف ضد القطاعات القوية في الرأي العام ولكن ليس ضد قوة الشرطة السرية.
يحاول أعداء الحرية الثقافية تقديم حالتهم كالتِماس للانضباط على حساب الحرية الفردية. يبقى موضوع الحقيقة مقابل الكذب، إلى أقصى حد ممكن، في الخلفية. مع أن نقطة الشرح قد تتنوع، فالكاتب الذي يرفض بيع آرائه دائما ما يوصفُ بأنه مُجرّد مغرور. إنه مُتّهم، إما يريد أن يُغلق على نفسه في برج عاجٍ، أو يقدّم عرضا فاضحاً لشخصيته، أو مُقاومة للتاريخ الحالي الذي يتعذر اجتِنابه كخطوة للتشبُّث بفكرة الامتياز غير المبرر.
الكاثوليكية والشيوعية
تعتبر الكاثوليكية والشيوعية، على حد سواء، أن الخصم لا يمكن أن يكون صادقا أو ذكيًا. ضمنيا، كلاهما يعتبر أن الحقيقة قد كُشِفت سلفاً. وأن المهرطق، لو لم يكن ببساطة أحمقَ، فهو ضمنيا واع بالحقيقة ويقاومها فقط من دوافع الأنانية. في الأدب الشيوعي، غالبا ما يكون الهجوم على الحرية الثقافية متنكّرا بفن الخطابة حول «النزعة الفردية البرجوازية الصغيرة»، الأوهام التحررية خلال القرن التاسع عشر وغيرها التي دعمت بكلمات أسيء استعمالها مثل: «الرومانسية والوجدانية»، والتي، بما أنها لا تتوفر على معنى متفق عليه، يعتبر الجواب عن مفهومها صعبا. هكذا، فالجِدال يؤدي إلى المُناورة بعيدا عن الموضوع الواقعي. يمكن للشخص أن يتقبل وأغلب الناس المثقفون يتقبلون، الموضوع الشيوعي الذي يقول إن الحرية المحضة ستوجد فقط في بعض طبقات المجتمع.
منذ أعوام مضت، حينما أراد شخص أن يدافع عن حرية الثقافة، كان عليه أن يقاوم المحافظين والكاثوليكيين – وإلى حد ما – كان عليه أن يقِف ضد الفاشية أيضا. أما اليوم، فعلى الشخص أن يدافع عن حريته الفكرية ضد الشيوعية وحتى ضد زملائه في الرحلة (العمل نفسه)، يجب على الشخص المثقف ألا يبالِغ بالإشارة إلى التأثير المُباشر للأحزاب الإنكليزية الصغيرة، لكن يمكن الحذر من التأثير السام للأسطورة السياسية الروسية على الحياة الفكرة الإنكليزية. عندما انهارت ألمانيا، تم اكتشاف أن عددا كبيرا من السوفياتيين – بلا شك، من دون دوافع سياسية – قد غيّروا الجبهة وصاروا يحاربون من أجل الألمان. أيضا، رفضت نسبة قليلة من السجناء الروس العودة إلى الاتحاد السوفياتي، وبعضهم تم ترحيله قسرا. صارت هذه الحقائق، المعروفة لدى العديد من الصحافيين في المشهد، لا تذكر في الصحافة البريطانية، بينما في الوقت نفسه استمر الدُّعاة «الروسوفيل» (الموالون لروسيا والاتحاد السوفياتي) في انكلترا بتعليل عمليات التطهير والترحيل بين عامي 1936 و1938 على أن الاتحاد السوفياتي لا يتعاون مع من باعوا وطنهم. ضباب الكذب والمعلومات المضللة التي أحاطت بالموضوع كما حل بالمجاعة في أوكرانيا والحرب الأهلية الإسبانية والتدخل الروسي في بولندا وهكذا دواليك… لم يكن تماماً بسبب خيانة الأمانة مباشرة، لكن أي كاتب أو صحافي مُتعاطف تماما مع الاتحاد السوفياتي – بالطريقة التي يريد الروس أن تكون – عليه أن يَرضخ للتزييف المُتعمد حول القضايا الهامّة.
كتب ماكسيم ليتفينوف مقالةً مطولة، عبارة عن كتيّب، في العام 1918 تُسلط الضوء على أحداث الثورة الروسية آنذاك، ولم يذكر ستالين وعلى العكس مانِحاً كل الثناء لتروتسكي وأيضا لزينوفييف وكامينيف وآخرين. كيف يمكن أن يكون موقف الشيوعي ذي الأفكار الدقيقة حول هذا الكتيّب؟ في أفضل أحوال الموقف الظلامي، إن وثيقة ماكسيم غير مرغوب فيها والأفضل قمعها. وإذ كان هناك من سبب، فقد قُرّرَ إصدار نسخة مُشوّهة للمنشور الأول، نسخة تشوهُ سمعة تروتسكي وتدرجُ إشارات إلى ستالين، لا يوجد شيوعي، وفي لحزبه، يمكن أن يَحتج. عرفت تلك الأعوام بالتزوير الإجمالي للأفكار، ليست المصيبة الكبرى في حُدوث التزوير بل في كونها لم تثر أيّ رد فعل من المثقفين اليساريين، إذ تعتبر المجادلة في الحزب أمرا في غير محله.
انفصام
أحيانا، يزدهر الأدب أثناء سيطرة أنظِمة استبدادية، لكن كما أشير سلفاً، لم تكن الأنظمة الديكتاتورية في الماضي ذات حكم شمولي. كان جهازُها القمعي غير فعّال، وكانت طبقاتها الحاكمة تقع في الفساد أو اللامبالاة أو تصبح نصف ليبرالية، بينما كانت المذاهب الدينية السائدة عادةً ما تعمل ضد الكمال وفكرة عصمة الإنسان؛ فقد كانت تحد من طاقته الإبداعية. وعلى الرغم من ذلك، معروف أن الأدب النثري قد وصل مستوياته العليا في فترات الديموقراطية والتكهنات الحرة على نطاق واسع. الجديد في النظام الاستبدادي هو أن تعاليمه ليست فقط غير قابلة للطعن بل أيضا متقلّبة، وعلى الآخرين تقبُّلها تحت طائلة الإدانة. ولكن من ناحية أخرى، انها دائما خاضعة للتغيير في أية لحظة، على سبيل المثال: المواقف المختلفة والتي تتعارض مع بعضها البعض للمثقف الشيوعي الانكليزي الذي دافع بها أيضا عن الحرب بين بريطانيا وألمانيا. أعوام قبل شتنبر 1939، كان يتوقع منه أن يقِف ضد «أهوال النازية»، إلا أنه غيّر كل ما كتب إلى استنكار لأفعال هتلر في ما بعد؛ اعترف بأن ألمانيا آثمة بعد سبتمبر 1939، ما السبب؟
لا تعتبر الديكتاتورية عصر الإيمان بل عصر انفصام في شخصية الانسان، يصبح المجتمع ديكتاتوريا عندما تصبح بنياته مصطنعةً اصطناعاً فاضحاً: فتخسر طبقته الحاكمة وظيفتها وتنجح في التمسك بالسلطة بالقوة أو بالاحتيال. مثل هذا المجتمع، مهما طال واستمر لا يمكن أن يصبح متسامحا أو مُستقرا فكريا. ولا يمكنه أن يسمح بانتشار التسجيلات الحقيقية للوقائع، أو حتى الصّدق العاطفي الذي يقتضيه الإبداع الأدبي. بمجرد انتشار بعض الأفكار يمكن أن ينتشر نوع من السم داخل المجتمع، السم الذي يجعل موضوعا واحدا بعد آخر ضربا من المستحيل لأغراض أدبية؛ أكيد سيُمنع. حيثما توجد عقيدة إكراه – أو عقيدتان كما يحدث غالبا – الكتابة الجيدة تتوقّف. هذا الأمر، اتضح كثيراً أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. اعتبر العديد من المثقفين الانكليزيين أن الحرب تجرِبة مؤثّرة للغاية، لكن ليست تجربة حول ما يمكنهم الكتابة عنه بإخلاص. تنتج الحرب هكتارات من الطباعة، إلا أنه لا شيء تقريباً يَستحقُّ القراءة.
من مقالةعام 1946
(ترجمة: محمد قنور ـ المغرب)
السفير