حمص التي أسواقها قائمة ومسرّات أهلها دائمة
محمود الزيباوي
في “معجم البلدان”، هي مدينة قديمة بين دمشق وحلب يمرّ من جانبها نهر العاصي، وتشكّل مع أعمالها أحد أجناد الشام الخمسة. وهي في زمننا مدينة تقع في وسط سوريا، وعاصمة لمحافظة تحمل اسمها وتحتلّ موقع القلب من هذه البلاد.
قدّم ابن عبد ربّه الأندلسي في “العقد الفريد” تعريفا مختصرا بـ”الشامات”، ورأى أنّ “أول حد الشام من طريق مصر أمج، ثم يليها غزة، ثم الرملة، ومدينتها العظمى فلسطين وعسقلان، وبها بيت المقدس، وفلسطين هي الشام الأولى”. تليها “الشام الثانية”، و”هي الأردن، ومدينتها العظمى طبرية، وهي التي على شاطئ البحيرة، والغور واليرموك. وبيسان فيما بين فلسطين والأردن. ثم الشام الثالثة الغوطة، ومدينتها العظمى دمشق، ومن سواحلها طرابلس. ثم الشام الرابعة وهي أرض حمص. ثم الشام الخامسة وهي قنسرين، ومدينتها العظمى حلب”، “وساحلها أنطاكية مدينة عظيمة على شاطئ البحر”.
احتار الأقدمون في تفسير اسم “الشام الثالثة”. في “معجم ما استعجم”، أكّد أبو عبيد البكري أنّ حمص “لا يجوز فيها الصرف كما يجوز في هند لأنه اسم أعجمي”، وزعم أنها “سُمّيت برجل من العماليق يسمّى حمص، ويُقال رجل من عاملة، هو أول من نزلها”. العماليق في “لسان العرب” قوم قديم من عاد، “وهم الجبابرة الذين كانوا بالشام على عهد موسى”، أمّا بنو عاملة، فقبيلة عربية يمنية هاجرت بعد خراب سد مأرب ونهاية مملكة سبأ. في “معجم البلدان”، رأى ياقوت الحموي أنّ حمص “يذكّر ويؤنّث”، وهو اسم لـ”بلد مشهور قديم كبير مسوّر”، “بناه رجل يقال له حمص بن المهر بن جان بن مكنف، وقيل حمص بن مكنف العمليقي”. الأكيد أن حمص مشتق من “إيميسا”، وهو الاسم الذي عُرفت به المدينة في زمن اليونانيين، وقد حافظت على هذا الاسم في العهد الروماني حيث أصبحت بمثابة عاصمة محافظة سوريا، ومنها خرجت جوليا دومنا، زوجة الأمبراطور سبتيموس سيفيروس.
مثل سائر المدن السورية الكبيرة، عرفت حمص المسيحية في القرون الميلادية الأولى، وتحوّلت منارة من منارات المشرق البيزنطي قبل أن تدخل الإسلام على يد أبي عبيدة بن الجراح في خلافة عمر، كما هو شائع. بحسب الرواية التي نقلها محمد بن عبد المنعم الحِميري في “الروض المعطار في خبر الأقطار”، “حاصر المسلمون أهل حمص حصارا شديدا فأخذوا يقولون للمسلمين: اذهبوا نحو الملك فإن ظفرتم به فنحن كلنا لكم عبيد، فأقام أبو عبيدة رضي الله عنه على باب الرستن بالناس، وبثّ الخيل في نواحي أرضهم فأصابوا مغانم كثيرة وقطعوا عنهم المادة والميرة، واشتد عليهم الحصار وخشوا السبي فأرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح، فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتاباً بأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم، وعلى أن يضيفوا المسلمين يوماً وليلة، وأن على أرض حمص مئة ألف دينار وسبعين ألف دينار، وفرغوا من الصلح وفتحوا باب المدينة للمسلمين فدخلوها وأمن بعضهم بعضا”.
المدينة العامرة
تعرّبت المدينة، وعظم شأنها على رغم اضطراب أحوالها في العهد الأموي، وحافظت على مكانتها في العهد العباسي الذهبي حيث كتب اليعقوبي في وصفها: “مدينة حمص من أوسع مدن الشام، ولها نهر عظيم منه شرب أهلها”، وذكر من أقاليمها الرستن وحماة التي كانت تتبع إدارياً لها في تلك الحقبة. تتقاطع الشهادات وتتكرّر الأوصاف في نهاية العصر العباسي. نقرأ في “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للشريف الإدريسي: “وأما أرض حمص، فإن مدينتها حمص، وهي مدينة حسنة في مستوٍ من الأرض، وهي عامرة بالناس والمسافرون يقصدونها بالأمتعة والبضائع من كل فن، وأسواقها قائمة، ومسرّات أهلها دائمة، وخصبهم رغد”، “وفي نسائها جمال حسن بشرة”، “ونهر الأرنط المسمّى المقلوب يجري على بابها بمقدار رمية سهم أو أشف قليلاً”، “ولهم عليه قرى متصلة وبساتين وأشجار وأنهار كثيرة، ومنها تجلب الفواكه إلى المدينة. وكانت في مدة الإسلام من أكثر البلاد كروماً، فتلف أكثرها. وثراها طيّب للزراعات واقتناء الغلاّت، وهواؤها أعدل هواء يكون بمدن الشام. وهي مطلسمة لا تدخلها حية ولا عقرب ومتى أدخلت على باب المدينة هلكت على الحال، وبها على القبّة العالية الكبيرة التي في وسطها صنم نحاس على صورة الإنسان الراكب يدور مع الريح حيث دارت، وفي حائط القبّة حجر عليه صورة عقرب، فإذا جاء إنسان ملدوغ أو ملسوع طبع في ذلك الحجر الطين الذي يكون معه ثم يضع الطين على اللسعة فتبرأ للحين. وجميع أزقتها وطرقها مفروشة بالحجر الصلد، وزراعاتها مباركة كثيرة، وزروعها تكتفي باليسير من السقي. وبها مسجد جامع كبير من أكبر جوامع مدن الشام”.
تتردّد حكاية المدينة “المطلمسة” في “معجم البلدان” كما في “آثار البلاد وأخبار العباد” و”الروض المعطار في خبر الأقطار”. كما يتردّد الحديث عن المزارات والمشاهد، وأشهرها قبر خالد بن الوليد، وينقل القزويني في هذا الصدد أن سيف الله المسلول مات في المدينة “وهو يقول في مرض موته: تباً للجبناء، ما على بدني قدر شبر إلا وعليه طعنة أو ضربة، وها أنا أموت على الفراش موت العير”. في المقابل، تتباين الآراء في وصف أهل حمص. يزعم ياقوت الحموي أن فساد هواء المدينة وتربتها “يفسدان العقل حتى يضرب بحماقتهم المثل”. كذلك، ينقل القزويني أنهم “موصوفون بالجمال المفرط والبلاهة”. في المقابل، يستعيد الحميري القول إن أهل حمص كانوا “أوّل من ابتدع الحساب في سالف الزمن، لأنهم كانوا تجارا يحتاجون إلى الحساب في أرباحهم ورؤوس أموالهم ونفقاتهم”، وهم “موصوفون بالنجدة والتمرس بالعدو لمجاورتهم له، وبعدهم في ذلك أهل حلب”. تتكرّر هذه الكلمات على لسان ابن جبير بشكل شبه حرفي. من جهة ثانية، يشير ياقوت الحموي إلى الانقسام الطائفي الحاد في هذه البلاد، ويذكر في حديثه “إن أشد الناس على علي رضي الله عنه بصفين مع معاوية كان أهل حمص وأكثرهم تحريضاً عليه وجَدّاً في حربه، فلما انقضت تلك الحروب ومضى ذلك الزمان صاروا من غلاة الشيعة، حتى أن في أهلها كثيرا ممن رأى مذهب النصيرية”. يستعيد القزويني هذا الحديث بشكل مختزل محتفظا بالألفاظ نفسها.
فضل وكرم
تحوّلت حمص في تلك الحقبة الصعبة خطاً فاصلاً زمن حروب الفرنجة، وصدّت بضراوة الهجمات المنطلقة من الحصن المرتفع على الجبل المقابل من جهة الغرب، وهو “حصن الأكراد”. مرّ ابن جبير بالمدينة في ذلك الزمن، ووجدها “فسيحة الساحة، مستطيلة المساحة، نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة، موضوعة في بسيط من الأرض عريض مداه، لا يخترقه النسيم بمسراه، يكاد البصر يقف دون منتهاه، أفيح أغبر، لا ماء ولا شجر، ولا ظل ولا ثمر، فهي تشتكي ظماءها، وتستقي على البعد ماءها، فيجلب لها من نهرها العاصي، وهو منها بنحو مسافة الميل، وعليه طرة بساتين تجتلي العين خضرتها، وتستغرب نضرتها، ومنبعه في مغارة يصفح جبل فوقها بمرحلة بموضع يقابل بعلبك، أعادها الله، وهي عن يمين الطريق دمشق”. “وأسوار هذه المدينة غاية في العتاقة والوثاقة، مرصوص بناؤها بالحجارة الصم السود، وأبوابها أبواب حديد، سامية الإشراف، هائلة المنظر، رائعة الإطلال والأناقة تكتنفها الأبراج المشيدة الحصينة. وأما داخلها فما شئت من بادية شعثاء، خلقة الأرجاء، ملفقة البناء، لا إشراق لآفاقها، ولا رونق لأسواقها”. في ختام حديثه، توقف الرحالة القادم من غرناطة أمام حصن العدو، وقال: “وما ظنك ببلد حصن الأكراد منه على أميال يسيرة، وهو معقل العدو، فهو منه تتراءى ناره، ويحرق إذا يطير شراره، ويتعهد إذا شاء كل يوم مغارة”.
بعد ابن جبير، جاء ابن بطوطة من طنجة، ومرّ بحمص في عهد المماليك، وقال في وصفها: “وهي مدينة مليحة، أرجاؤها مونقة، وأشجارها مورقة، وأنهارها متدفقة، وأسواقها فسيحة الشوارع، وجامعها متميز بالحسن الجامع، وفي وسطه ماء. وأهل حمص عرب لهم فضل وكرم. وبخارج هذه المدينة قبر خالد بن الوليد سيف الله ورسوله، وعليه زاوية ومسجد وعلى القبر كسوة سوداء. وقاضي هذه المدينة جمال الدين الشريشي من أجمل الناس صورة وأحسنهم سيرة”.
في قرى حمص
تتبدّل الأحوال وتتغير، غير أن صورة حمص تبقى في العمق واحدة. هي اليوم، بعد دمشق وحلب، ثالث مدن سوريا من حيث عدد السكان، وموقعها في الوسط الغربي من البلاد، على طرفي واديي العاصي الأوسط الذي يقسمها قسمين. تحدّها شمالاً حماة، وجنوباً دمشق، وشرقاً السخنة، وغرباً طرابلس. وهي المركز الإداري لكبرى المحافظات السورية، وواصلة المناطق الجنوبية الساحلية والشمالية والشرقية، ويحدّها العراق ولبنان. وهي، كما قال ابن الوردي في “خريدة العجائب”، لا تزال “مقصودة من سائر النواحي”. هي مدينة الشاعر العباسي الماجن الذي “سُمِّي بديك الجن لأن عينيه كانتا خضراوين”. ذكرها الملك الضليل امرؤ القيس قديماً، وقال: “لقد أنكرتني بعلبك وأهلها/ ولابن جريح في قرى حمص انكرا”.
النهار