مراجعات كتب

حمص: حصار مدينة أم حصار وطن؟!

 

 

مراجعة: د. عفيف رزق

[ الكتاب: حمص: الحصار العظيم

[ الكاتب: وليد الفارس

[ الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بيروت 2015

على الرغم من قول الباحث «وليد الفارس» في كتابه «حمص: الحصار العظيم» بأنه لا يقصد «تناول حمص المحاصرة بوصفها كياناً أو جغرافيا مستقلة»، فإن الوقائع التي يستعرضها بدقة والأحداث التي يوردها مدة الحصار طيلة سبعمئة يوم تغطي ليس مدينة مهما كبرت أو منطقة مهما اتسعت بل بلداً مستقلاً…

يبلغ عدد سكان حمص استناداً لسجلات الأحوال الشخصية لعام 2011 أكثر من مليوني نسمة؛ أما المساحة فتبلغ أربعة ملايين هكتار. أغلبية سكان حمص من العرب وهناك فئات متنوعة من الشركس والداغستانيين والتركمان والارمن…، مع الاشارة الى ان الطائفة المسيحية تعتبر من أقدم سكان المنطقة من حيث العمق التاريخي، اذ يعود تاريخ متحدريها الى العام 2300 قبل المسيح، في حين ان القائد الاسلامي «ابو عبيدة الجراح» فتح حمص عام 633 ميلادية. اندلعت المظاهرات الاحتجاجية في حمص، في منتصف آذار 2011، بأعداد غير متوقعة، وذلك في «جمعة العزة»، ثاني أيام الجمعة من الثورة، مع العلم ان المعروف عن أهل حمص: طيبة القلب واجتناب المشاكل، وما كان احد يتوقع مثل هذه الجماهير التي خرجت لتطالب بالحرية والكرامة، وقد حطمت صورة حافظ الاسد وابنه بشار عند مبنى «نادي الضباط». في هذه الاثناء، ولدى وصول المظاهرات الى هذا الحد من التطور، بدأ النظام يستعد للمواجهة لخوض معركة أطلق عليها اسم «معركة الحسم»، وذلك في بداية شباط 2012؛ وابتدأت الحصارات للأحياء وللمدن، وابتدأت أيضاً تُرتكب المجازر التي طالت جميع فئات المجتمع، ولم تقف مهاجمة الاحياء عند حد وذبح من بقي فيها، بل تعداها الى المجازر التي كانت تحدث بفعل القصف بالهاون والصواريخ وغيرها. ولعل أبرز هذه المجازر، كما يُلاحظ الباحث تلك التي جرت في حي الخالدية، الحي الشعبي عند المدخل الشمالي، والذي اشتهر بتنظيم الاعتصامات والتظاهرات وان حاملي السلاح فيه هم من ابناء الطبقة الشعبية، وقد تعرض هذا الحي لأكثر من ثلاثين عملية اقتحام ولم ينجح النظام في السيطرة عليه الا في نهاية حزيران 2013، إثر عملية واسعة النطاق بمشاركة قوات من حزب الله اللبناني. يقول الباحث ان الثورة عمت مختلف المناطق في محافظة حمص وانتفضت ضد النظام؛ لكن لا بد هنا من «ذكر منطقتين بارزتين في الثورة لا تنبع أهميتهما من أنهما منطقتان ثائرتان فحسب، بل من سيرهما ودورهما في الثورة أيضاً» هما حي بابا عمرو، وحي الخالدية.

أرغمت هذه الوقائع الدامية أهالي حمص على حمل السلاح للدفاع عن النفس أولاً، وثانياً للدفاع عن الثورة. وقد أدرك الثوار، وبسرعة، أنهم قوى متفرقة في مناطق حمص المختلفة ينال منها النظام واحدة تلو الاخرى، وأنه لا بد من تجمعها لتحقيق النصر. هنا لا بد من لفت الانتباه الى ان الثورة دخلت في منحى جديد له متطلبات خاصة وواجبات جديدة. اولى مسائل هذا المنحى كان الحصار الذي فرضه النظام على حمص وكيفية التعامل معه ومع المحاصرين ايضاً

في الفترة الاولى للثورة نشر النظام دباباته في شوارع حمص، ووضع قناصيه من جنوده في الأبنية المرتفعة، فشهدت المدينة حالة اختناق بسبب تدفق السلع والمواد والناس حيث كان القائمون على الحواجز في البداية يتسمون بالمزاجية فيسمحون للمارة بالعبور تارة ويمنعونهم تارة أخرى، وقد يطلقون النار عليهم أو يعتقلونهم او يصادرون سياراتهم. وهكذا أصبح العيش في أحياء حمص القديمة محفوفاً بالمخاطر، فضلاً عن قطع الخدمات عن معظم هذه الاحياء منذ بداية عام 2012، ولم يكن منذ ذلك التاريخ ثمة منفذ يُسمح من خلاله بعبور السكان والبضائع سوى جورة الشياح باتجاه حي الغوطة، وذلك بعد ان كان النظام قد اقتحم بابا عمرو؛ تلا هذا التطور حملة عسكرية واسعة، على أحياء حمص، مستهلة بقصف عنيف تمهيداً لاقتحام المدينة بعد ان حشد آلاف الجنود، اما الثوار الذين كانوا في المدينة فإنهم اتبعوا استراتيجية تقوم على الانسحاب من الأحياء من دون مقاومة فأخلوا بعض الاحياء. لكن عندما كانت قوات النظام تدخل الى الاحياء تعمد الى ارتكاب مجازر بحق السكان، فيُذبح الاطفال والنساء ويُحرق الرجال والشبان. أدرك الثوار ان الحملات العسكرية هي عمليات تطهير حمص على أساس طائفي فعقدوا اجتماعاً موسعاً وأجمعوا على ان حمص عاصمة الثورة السورية لا عاصمة أي طائفة وأنهم لن يسمحوا باقتطاعها لتقسيم سورية في المستقبل وسيحافظون على من قرر البقاء فيها. صعَد النظام عملياته فأغلق المنفذ الأخير، بين المنطقة المحاصرة وحي الغوطة، في 9 حزيران 2012، وتوقفت حركة عبور الاشخاص والسلع، علماً ان المدينة في الشهور التي سبقت عملية إغلاق المنفذ كانت تعيش حالة حصار جزئي بحيث لم يكن في الامكان إدخال شاحنات المواد الغذائية ولا كميات كبيرة من المواد الطبية. مع مرور الوقت أصبح الحصار أشد قساوة وخصوصاً عندما كان جيش النظام يقصف قذائف من مختلف الانواع، وبعد انقضاء عام على الحصار خسر الثوار حي الخالدية الذي كانت مطاحن القمح فيه توفر للمحاصرين الجزء الاكبر من القمح، بدأت المعاناة وأخذ المحاصرون يعتمدون على ما تنبته الارض من حشائش، وعلى اوراق الشجر حتى ان كثيراً من المحاصرين كانوا يمضون ثلاثة أو اربعة أيام لا يتناولون فيها سوى حبات معدودة من الزيتون أو كمية قليلة من الحشائش وكان الوضع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم حتى توصلوا لأكل جلود البقر وذبحوا القطط والسلاحف والضفادع

يسلط الباحث الضوء على نشاط ثوار حمص المقيمين في الخارج إذ لم يستسلم هؤلاء للواقع ويتركون ثوار الداخل يعانون من مرارة الحصار، بل انشأوا المؤسسات المختصة لتوفير المعونات الغذائية والصحية او غيرها للمحاصرين، وانشأوا أيضاً الفصائل العسكرية لصد هجمات النظام الذي كان يحشد آلاف الجنود وعناصر الامن وحتى «الشبيحة» لدى خوضه المعارك. قبل استعراض بعض مواضيع هذا النشاط لا بد من الإشارة الى ان عدد المواطنين المدنيين الذين كانوا يسكنون مدينة حمص قبل الثورة بحدود الثمانماية ألف مدني وقد خرج معظم هؤلاء على دفعات. اما الذين فضلوا البقاء في المدينة المحاصرة فيتراوح عددهم بحدود الف وخمسمئة مدني. يقول الباحث ان هؤلاء المدنيين عاشوا في المنطقة المحاصرة التي يُعد العيش فيها الأخطر في العالم، واصبحت هذه المنطقة بقعة جغرافية منعزلة كأنها جزيرة مجهولة في محيط واسع. وعن عسكرة الثورة يرى الباحث ان هذه العسكرة كانت ردة فعل على ما كان النظام يقوم به فهو سلّح أتباعه والموالين له على أساس طائفي؛ وابتدأت تُرتكب المجازر الواحدة تلو الاخرى، وأيضاً عمد الى إطلاق الرصاص على التظاهرات من دون اعتبار، إضافة الى عمليات قنص كل متحرك في أحياء المدينة، يُضاف الى ذلك عمليات الاعتقال العشوائي التي كانت تؤدي في كثير منها الى الموت تحت التعذيب… انطلاقاً من هذا الواقع الدامي كان لا بد للثوار اللجوء الى الدفاع عن النفس بنفس الآلة التي يستخدمها النظام. لقد طرح التطور الجديد ـ العسكرة ـ على الثوار مهمات وأهدافاً جديدة فكانت المؤسسات المتعددة من غذائية، مروراً بالصحية، والعسكرية ـ الامنية… والتي تعالج مختلف القضايا المهمة للمواطن العادي وأيضاً للثائر والموجود تحت الحصار. وقد تمت استعراض وشرح مهمات هذه المؤسسات بالتفصيل والدقة.

المستقبل

 

 

 

مدخل غير طائفي لقراءة الحرب في سورية/ ساري حنفي

من الصعب تصور كتاب يمكن أن يكون دليلا نظريا لفهم إغوائيات اعتبار الحرب في سورية حرباً طائفية، أكثر من كتاب عالم الاجتماع الأميركي، روجرز بروبيكر، “الإثنية بدون مجموعات” (Ethnicity without groups, 2004) الذي نبهنا إلى أن إضفاء الماهية على الصراعات من خلال خلق مجموعات إثنية ليس إلا وهما يمنعنا من فهم آليات تشكل الصراعات وتغيراتها من خلال تحالفات تتجاوز المجموعة.

يبين لنا بروبيكر كيف أصبح مفهوم الهوية مفهوما مركزيا بدءاً من كتاب إريك إيركسون، “أزمة الهوية”. ولكن إيركسون كان قد طبقه على الأفراد، ومع الوقت أصبح محل نقاش للمجموعات، التي أخذت معنىً صلبا لدى المدرسة الماهياتية، ومعنى ناعما لدى المدارس البنائية. بالنسبة لبروبيكر، لا يمكن فهم المجموعة بدون تحديد كيفية التصنيف وفهم الذات والمكان الاجتماعي والقواسم المشتركة والترابط. ويبين خطر عدم الأخذ بعين الاعتبار هذه المفاهيم من خلال تقديمه تحليلا في الفصل الثاني من الكتاب للدراسات الاختزالية لقبيلة النوير (Nuer) التي تعيش في أواسط شرقي أفريقيا، التي أهملت تعقيدات التزاوج والتهجين الثقافي لتخلق تصنيفاً هوياتيّاً صلباً للنوير ككل الذي يمنع الاعتراف بهويات متعددة لهم.

على ضوء هذا الكتاب، كيف يمكن فهم ما يحصل الآن في سورية؟

بدأت الثورة السورية في مارس/ آذار 2011 باعتبارها انتفاضة سلمية قامت بها جموع غفيرة مطالبةً بمطالب جد كلاسيكية لأية انتفاضة، تضع المطلب الديمقراطي كمطلب حياتي أساسي لتنظيم العلاقة بين الدولة والفرد والمجتمع بعد هيمنة نظام حاكم “جملكي”، حيث ورث بشار الأسد عن أبيه الجمهورية وحكما بالحديد والنار والاستخدام الممنهج للتعذيب لنصف قرن بمساعدة حفنة من أبناء العائلة، والمستفيدين من طبقة الأغنياء الجدد، التي تشكلت، إضافة الى “علوية سياسية” (على حد تعبير صادق جلال العظم) حيث استحوذ علويون على أغلب المناصب الحساسة منذ نصف قرن.

وبسرعة تم تطييفها من قبل النظام، عندما قام بحملة دعائية ونشر بوسترات في كل أنحاء سورية، مدنها وريفها، مكتوب عليها “لا للطائفية” أي أن النظام الحاكم يرى في معارضيه “مجموعة سنية” تريد أن تطيح بالنظام. وبعد القمع الدموي للمظاهرات السلمية، تعسكرت الانتفاضة السورية.

وبتعسكرها، دخل البعد الإقليمي ليلعب دورا رائدا في دعم طرفي الصراع. وأصبح الكثير من الطرفين (المعارضة والموالاة) يتحدثون عن الصراع بوعي أو بدون وعي على أنه “حرب أهلية” أو “حرب طائفية” أي أنه حرب بين مجموعتين، كل واحدة لها حدود صلبة مربوطة بالانتماء الطائفي. وبدأت تتحدث كل مجموعة عن صعوبة التعايش مع المجموعة الأخرى. وبالتالي تم إنكار البعد السياسي في الانتفاضة. وفيما يلي بعض مظاهر هذا الإنكار.

بدأت العديد من وسائل الإعلام تستخدم صفة طائفة الشخص قبل ذكر اسمه، فمثلا “العلوي بشار الأسد” أو “الدرزي فلان” أو المليشيا الشيعية حزب الله، كل ذلك هو محاولة لطمس معالم طبيعة الصراع في سورية وهو بين دكتاتورية متحالفة مع طبقات اجتماعية تتجاوز حدود أية طائفة، وبين انتفاضة شعبية لها مطالب شرعية حسب الأعراف العالمية المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

فحزب الله يقاتل مع النظام السوري ليس لأنه حزب “شيعي” يتحالف “طبيعياً” مع “العلويين”، بل لأن موضوع الديمقراطية ليس على أجندته، وحتى لو استخدم حزب الله شعارات مثل “لن تسبى زينب مرتين” أو “الحرب ضد التكفيريين” فهذا ليس إلا بروبوغاندا دينية لتعبئة جموع تحركها المشاعر الدينية. وعلى الرغم من وجود هيئات سياسية ممثلة لجموع عبرت بوضوح عن مطالبها السياسية وبموضوع الديمقراطية (الائتلاف الوطني السوري، هيئة التنسيق السورية، وغيرها) إلا أن حزب الله لا يريد أن يرى في جموع السوريين المحاربين للنظام إلا “داعش” والتكفيريين.

إن كان النظام وحلفاؤه قد بادروا إلى تطييف الانتفاضة السورية، فبكل أسف وقعت بعض أطياف المعارضة في هذا الفخ من خلال الانتقال من استخدام خطاب ديني (وهنا إسلام سني) كأداة للتعبئة، إلى خطاب يحمل معاني إقصائية للآخر، ومتطرفٍ، مقارنة بالخطاب الإخواني المصري وحزب النهضة في تونس.

(أستاذ علم الاجتماع، الجامعة الأميركية في بيروت)

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى