حمص: كيف تتصدى المعارضة لأزمة السلم الأهلي؟
ديانا سكيني
تدفع حمص، بتنوعها وتناقضاتها وخطوط تماسها، وبما هي نموذج مكثف عن صورة الوطن النازف، ثمناً باهظاً منذ 9 اشهر، من دم ابنائها ومن سلمها الاهلي. استثمار النظام للحديث عن الفتنة واستمرار قمعه لا يبرران عدم مساءلة المعارضة عن مشروعها للدفاع عن سلم المجتمع الذي سلطت الأحداث الطائفية الأخيرة الضوء على تحدياته الكثيرة.
منذ بدء الانتفاضة السورية، ومحمد صالح (54 عاما) الشيوعي السابق الذي قضى 12 عاماً في المعتقل، منحاز كمواطن وناشط الى سلمية الثورة وعلمانية المشروع السياسي الذي يجب ان تلده. في 17 تموز الماضي، تاريخ وقوع أول حادثة خطف وقتل على خلفية طائفية في حمص، كان عليه أن يقف في ميدان الدفاع عن السلم الأهلي. هويته كمعارض من الطائفة العلوية سهّلت حركته “في الشارعين” فصنعت له ادوارا بدلت اولويات النضال، ولو بشكل مرحلي، حين أصبح حقن الدماء والحفاظ على العيش المشترك الذي تمثله فسيفساء حمص الطائفية مهمة ثورية، قد لا تقل صعوبة عن غاية الثورة القائمة!
أسّس صالح أو ابو علي، كما يعرف، مع نشطاء آخرين “لجنة التضامن الأهلي في حمص” التي نجحت في بعض الاحيان في التوسط لإطلاق مخطوفين من الجانبين الموالي والمعارض، وفي العمل للتهدئة مع وجهاء ورجال دين تهمهم “مصلحة الوطن و ليس مصلحتهم الشخصية”، وفق ابو علي الذي يشير للمناسبة بتندر الى سؤاله مرة احد الخاطفين عن سبب ما يقوم به، فأجابه الاخير: “من اجل مصلحة الوطن”!
تغيب الاحصاءات الدقيقة لأعداد القتلى والمخطوفين على خلفية طائفية في حمص لكن ابو علي يقدر في حديث مع “النهار” عدد الذين قتلوا بقرابة الثلاثمئة اما “المخطوفون المفقودون فعددهم 123”.
يوم الاثنين الواقع فيه 5 كانون الاول الجاري كان الاصعب في حياة الرجل. “كنت اتلقى اتصالا كل دقيقة يخبرني عن قتيل او مخطوف من هذا الطرف او ذاك، والجميع يطالبني بالتوسط، لكن لا احد يسمع، لم يرد احد ان يسمع، الثأر كان سيد الموقف”. ووفق رواية ابو علي لليوم/ المجزرة، فإن مسلحين اطلقوا النار من سيارة صباحا بشكل عشوائي على حي علوي فقتل تسعة من ابنائه وقبلها بساعات كانت قد وصلت الى حي الزهراء ذي الغالبية العلوية جثتا اب وابنه، فسارع مسلحون غاضبون الى نصب الحواجز طوال النهار لخطف منتمين الى الطائفة السنية حتى اذا ما انقضى ذلك اليوم الاسود كانت اكثر من ثلاثين جثة مسجّية بالقرب من حي الزهراء. “انه الجنون الفظيع”، يقول ابو علي.
ويشير الى نشاط من يصفهم بـ” شريحة دنيا من الناس يُستأجرون من هذا الطرف او ذاك، ومعظمهم من اصحاب السوابق، منهم افراد في عصابات المخدرات والتهريب وقوادون يقومون بالخطف من اجل المال”. معظم عمليات الخطف تتم عبر سيارات الاجرة وباصات النقل، حيث يختار الخاطفون المسلحون اهدافهم بعد فرز الركاب طائفياً.
“ظاهرة التسلح باتت امرا واقعا في كثير من الاحياء الموالية والمعارضة”، وفق ابو علي، تماما كما “الفرز السكاني الذي تنتجه عملية النزوح الطائفي القسري او الارادي والتي تكثفت مؤخرا”.
وان كان “طبيعيا” ان تكون الاحياء الموالية مسلحة بحكم “انتمائها الى النظام”، فإن بعض الاحياء المعارضة قد ازدادت تسلحا في الشهور الماضية كما يقول ابو علي حيث يتجمع المنشقون عن الجيش ومسلحون آخرون معلنين ان هدفهم حماية المتظاهرين، لكن ابو علي يؤكد ان جنودا منشقين ضالعون في عمليات الخطف التي جرت. ويطالب الرجل الذي يتواصل مع شخصيات معارضة من المجلس الوطني بالتبرؤ من كل من يحمل السلاح في مواجهة مواطن سوري “فنحن لا نريد معارضة تشبه النظام”.
ويتحدث عن وقوع اشتبكات مسلحة بين الاحياء الموالية والمعارضة وعن انعدام الامن في المدينة ووقوع الخطف حتى في البقع الجغرافية التي تتواجد فيها حواجز للنظام حيث “بين كل مية متر ومية حاجز” مضيفا ان “الرصاص يطلق بشكل عشوائي دون ان يكون متاحا التأكد من مصدره في بعض الأحيان”. يروي ان زوجته نجت بأعجوبة من اطلاق نار على جامعة حمص حيث تعمل، كما تعرّض المبنى الذي يقطنه في حي المدينة الجامعية غرب حمص الى اطلاق نار عشوائي. ويحكي انه “ليس بالامكان التجول بشكل طبيعي ما ان يقترب المغيب”. ظاهرة القنص المنتشرة على تخوم نقاط ساخنة كباب السباع وباب عمرو والخالدية والبياضة ودير بعلبة صنعت مشهداً من شوارع مهجورة الا من الأبنية التي يخترقها الرصاص وسواد الحرائق. كما ان عبارة “انتبه قناص هنا” المطبوعة على الجدران باتت شائعة في الاماكن الساخنة تماما كمشاهد القمامة المنتشرة في الاحياء.
صالح، وان طالب جميع اطراف المعارضة بتجريم الخطف والقتل الطائفيين، فإنه يعبر في الوقت نفسه عن اعتقاده بمحدودية تأثير مخاطبة المعارضة للشارع على مجرى الاحداث “هناك حاجة الى ما هو اكثر من كلام خصوصا اذا كان الكلام موجها الى اشخاص لا يريدون ان يسمعوا او لا يستطيعون”.
المرصد السوري
ويعتري توثيق عمليات الخطف والقتل على خلفية طائفية صعوبة كبيرة وفق رئيس المرصد السوري لحقوق الانسان الذي يتخذ من لندن مقرا له رامي عبد الرحمن، والذي يقول لـ”النهار” انّ ” تعاطينا مع الاحداث الطائفية في حمص حساس جدا”. ويضيف أن “توثيق المرصد بعض الأحداث التي يقوم بها مسلحون معارضون من المنشقين يغضب بعض المعارضين” مردفاً “إن كنا اعتدنا الترهيب من قبل النظام فإن ترهيب اطراف في المعارضة لنا هو امر غير مقبول”. ويذكّر “بأننا رفعنا الصوت منذ شهر تموز ضد الاقتتال الطائفي، لكن خطابنا واجهته معارضات تتنطح بوطنيات تدّعي ان هذا الخطاب يخدم النظام”. عبد الرحمن الذي لا يستبعد ان يكون النظام قد نجح بخرق مسلحين معارضين، يقر بـ”وجود جمهور لم يعد يقيم مكانا للعقل لشدة ما تعرض له من قمع، ولا غرابة ان اكتشفنا ان (الشيخ عدنان) العرعور هو نجم الثورة الاول في بعض الاحياء”، مشددا على ضرورة العمل المعارض للحفاظ على سلمية الثورة بوحي من صبغة شعاراتها المدنية الجامعة.
لجان التنسيق
المسألة الطائفية في حمص تحديدا حضرت في برامج شرائح معارضة بارزة. لجان التنسيق المحلية اصدرت الاسبوع الماضي تقريرا عن الاحداث الطائفية في المدينة محملة النظام مسؤولية دفع الامور في اتجاه الاقتتال الطائفي ليسهل مهمته بالانقضاض على الحراك الثوري. التقرير نفسه طالب المجلس الوطني بلعب دور مسؤول “لاحتواء أية تداعيات قد تنجم عن الممارسات الطائفية”، كما طالبه بوضع “بدائل حركية وسياسية لتطوير سلمية الثورة”. وتوجه التقرير في توصياته الى ضباط وجنود “الجيش السوري الحر” وناشدهم “بألا يُجَروا إلى أعمال من شأنها إلحاق الضرر بالخط السلمي المتصاعد للثورة أو الإضرار بالنسيج الوطني السوري”. وشدد التقرير على اهمية عدم انخراط وسائط الاتصال الداعمة للثورة بالترويج للشائعات وبث المواد التي تثير المشاعر الطائفية.
وكثر اخيرا اصدار البيانات والنداءات الموجهة الى اهالي حمص من اطر معارضة في الداخل ومن شخصيات معارضة ومن مثقفين وناشطين. رئيس المجلس الوطني برهان غليون نشر على صفحته على الفايسبوك “نداء لرفض الفتنة والاقتتال الطائفي” في 16 تشرين الثاني الماضي دون ان يصدر البيان بشكل رسمي عن المجلس، وفيه دعوة الى “الثوار لعدم الوقوع في فخ النظام وإلى نبذ الممارسات المدمرة للشعب والثورة وإدانتها وتحريمها والعمل معا على إطلاق سراح كل المختطفين وتكوين اللجان المحلية للتعاون من أجل منع تكرارها”.
المجلس الوطني
محمد سرميني، عضو المجلس الوطني السوري، عن التيار الاسلامي، والموجود في اسطنبول يقول لـ”النهار” ردا على سؤال حول عدم تبني المجلس بيان غليون بشكل رسمي، ان “صدوره عن المجلس لربما فهم منه تثبيت حالة سلبية ضد الثوار” مضيفا ان “هناك عامل مراعاة ردود فعل الناس الواقعة تحت ضغط نفسي جراء القتل والتعذيب فليس سهلا في هذه الحالة استسهال تجريم الناس، علينا تجريم النظام كونه المسبب لما يجري والمسؤول عن النزعة الطائفية والمتهم بالضلوع بعمليات قتل تهدف الى الفتنة، ومنها قتل علويين ورميهم في مناطق سنية لاستجرار ردود افعال”. سرميني يضيف بأن المجلس الوطني “لا يختبئ وراء اصبعه، نحن نقر بوقوع احداث عنف طائفي لكننا نحصرها بالنطاق الفردي وهناك حالات خطف جرت فيها المحاسبة واعيد المخطوفون. ولدينا توجيهات بضبط هذه الحالات فالاقتتال الاهلي مرفوض في خطابنا وفي سلوكنا والدليل وجود معارضين من الطائفة العلوية معنا في المجلس وكذلك عملنا على مشروع مخاطبة الاقليات وطمأنتها الذي سيبدأ قريبا”.
ويقول إن “اغلب المسلحين الموجودين بريف حمص هم من المنشقين الذين يحمون التظاهرات” مؤكدا استمرار عمل لجنة التنسيق المشكلة بين المجلس و”الجيش السوري الحر” على الرغم من تصريح غليون لـ”رويترز” قبل ايام انه قد لا يملك النفوذ الكافي لمنع حرب اهلية يسببها قتال بين الجيشين النظامي والمنشق.
مبادرات مدنية
من جهتها، تؤكد عزة البحرة، رئيسة “حركة معا” المعارضة في الداخل، على “ضرورة توحد المعارضة حول رؤى تحمي السلم الاهلي وتواجه الفتنة الطائفية التي يغذيها سلوك النظام، خصوصا في حمص حيث قد يستفيد النظام من الاحداث الاخيرة لتبرير اقتحام المدينة”. وتدعو البحرة في حديثها لـ”النهار” الى تقليص دور رجال الدين في الحراك والحفاظ على سلميته ومدنيته معتبرة في الوقت نفسه ان تحميل المعارضة مسؤولية ردع كل عمل مسلح فردي امر قد يكون تعجيزيا فـ”من قال ان المسلحين منتمون الى جهة واحدة يمكن تحديد ارتباطاتها المصلحية او الخارجية او المالية او المذهبية؟”، متحدثة عن “مبادرات مدنية انطلقت بالتعاون مع تنظيمات شبابية ناشطة على الأرض للحد من آثار الضغط الهائل الذي يتعرض له المجتمع”.
لكن ما هو مثبت حتى الآن ان مهمة السيطرة على الامور في الظروف الراهنة حتى ضمن الحيز الاجتماعي المنتفض حصرا ما زالت بعيدة عن قدرة المعارضة المختلفة في اتجاهاتها وحساباتها داخل الاطار التنظيمي الواحد.
النهار