صفحات الثقافة

حمــص فــي لمحــة بانوراميــة


محمد علاء الدين عبد المولى

مدينتي حمص، التي تجلس في وسط سوريا من أين أبدأ الحديث عنها؟ من سنوات الذكريات البعيدة أم القريبة؟ مدينة يقال إن اسمها «إميسّا» ولكنها أخذت عبر التاريخ أسماء جديدة. من أسمائها المستمرة حتى الآن: «مدينة ابن الوليد» وابن الوليد هو خالد بن الوليد القائد العسكري المسلم الذي مات في حمص ودفن فيها واقيم جامع ضخمٌ على قبره سمّي باسمه (يقول له أهل حمص جامع سِيدي خالد…) [من طرائف أهل حمص المعروفين بالفكاهة أنهم يقولون نحن أول من اخترع الـ C.D لأن لفظ هذين الحرفين يعادل كلمة سِيدي[.

حمص كذلك سُمِّيت مدينة الشعر حيث فيها أجيال متلاحقة من الشعراء لا تنتهي. وغالبا يبدأون بذكر الشاعر المعروف باسم ديك الجنّ [اسمه عبد السلام بن رغبان[ المشهور بأنه قتل حبيبته (ورد) لأنه شكّ في أنها تخونه مع خادمه. ولكن تبين فيما بعد أنها بريئة من الخيانة فأحسّ الشاعر بثقل الندم وبأنه ارتكب حماقة ليس بمقدوره تصحيحها. في بعض نصوص النقد المقارن يقولون إن [شكسبير[ تأثر بقصة ديك الجنّ وورد في مسرحيته عطيل. ([ديدمونة [ في المسرحية تمثل [ ورد [ في شعر ديك الجن)…

يذكر أنّ من مطاعم حمص المشهورة يوجد مطعم اسمه (ديك الجنّ) المطلّ على ضفة نهر العاصي. هذا المطعم كنا ندعو إليه كثيرا من الشعراء العرب القادمين إلى حمص وكان لا بد أن يحتل ديك الجن مكاناً واضحا في أحاديث السهرة. مثلما الانكليزيان يبدآن التعارف في ما بينهما بالحديث عن الطقس، فإنّ أي شاعرين يلتقيان في هذا المطعم سوف ينطلقان من الكلام حول ديك الجنّ… إنها شيفرةٌ ذاتُ دلالة.

من الأمور المضحكة في تاريخ هذا المطعم أن إحدى إداراته قررت منع المشروبات الكحولية فيه، لأنها كانت إدارةً محافظةً تقليديةً. الأمر الذي يتناقض مع رمزية ديك الجن الذي كان يعود في آخر الليل ومن المنطقة نفسها الواقع فيها المطعم، وهو سكران منطفئ من السكر وتلمع عيناه مثل عيون الجنّ… يقال من هنا جاء لقبه ديك الجنّ.

حمص مدينة عامرة بالآثار الرومانية والبيزنطية بالدرجة الأولى، وتنتهي طبقاتها الأثرية بالعصور العثمانية الحديثة أوائلَ القرن العشرين. وقد أتيحَ لي العملُ تقريبا عشرين عاما في دائرة آثار حمص. وكنت أشهد على بعض الاكتشافات المهمة في مدينة حمص والمناطق المجاورة لها. لقد كان مكتبي في دائرة آثار حمص مُطلاًّ على مقهى مشهور في حمص اسمه [ مقهى الروضة[. هذا المقهى كان في أواسط القرن العشرين ملتقى للتيارات الأدبية والسياسية حتى أننا يمكن وضعه في سلسلة المقاهي العالمية التي لعبت دوراً كبيراً في حركة المجتمع من ثقافة وأدب وأحزاب. في هذا المقهى كانت كل طاولة تشكل مذهبا أدبيا أو كتلة سياسية في المدينة. وكان أتباعُ المذاهب الأدبية والسياسية المختلفون والخصوم يتجادلون في المقهى كلٌّ منْ وراء طاولته، ويحتدّ بهم النقاش، ولكن في النهاية يذهب الجميع معاً ليكملوا سهرتهم في مطعم للأكل والخمر في زوايا السوق القديمة في حمص. كانت تلك صورة عن ديمقراطية الحركة في تلك المرحلة. ومع الأسف فيما بعد تغلغلَ عناصرُ المخابرات في المقهى وحوّلوا حتى العاملين فيه إلى جواسيس على الزوار وفقدَ المقهى مركزه الرمزي في المدينة. ولم يبق إلا القليل من الأدباء والسياسيين يرتادونه وهم دائما تحت المراقبة. المقهى كان يجلس فيه مثلا قبل الانتفاضة السورية 2011 السيد د. برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري مع مجموعة أصدقاء قدامى أو حديثين. وكان لي شرف الجلوس معه والتعرف إليه جيدا. وقد قمتُ بإجراء حوارين فكريين مطولين معه نشرتهما في ذلك الوقت في المجلات العربية.

من مقهى الروصة كنت أرى أحيانا شخصية سياسيةً سورية مشهورة كان لها دور في حركة 8 آذار 1963 وهو السيد [ لؤي أتاسي [ أحد قادة هذه الحركة. كان يجلس في مقهى الروضة حتى وفاته.

كان لؤي الأتاسي مرتبطاً بمنفذي انقلاب الثامن من آذار تمت ترقيته من عميد إلى فريق وعيّنَ قائداً عاماً للجيش والقوات المسلحة وفي 23 آذار (مارس) 1963 تولى منصب رئيس الجمهورية إلى أن قدم استقالته بعد فشل عملية انقلابية في ذلك الحين. توفي لؤي الأتاسي في صباح 24 نوفمبر / تشرين الثاني 2003.

حمص مشهورة ببساتين العاصي (الميماس) والعاصي هو النهر المشهور في المدينة التي تُسمَّى باسمِهِ أيضاً… سمي النهر بهذا الاسم لأنه يجري بعكس اتجاه أنهار المنطقة أي من الجنوب نحو الشمال… أي يعصي الحركة الطبيعية لها. اسم نهر العاصي يعني رمزيا الشيء الكثير في خيال جميع أدباء حمص ورساميها: إنه يعني العصيان… في بداياتي الشعرية أعطيت جريدة العروبة في حمص قصيدة للنشر اسمها [ الأشجار تعلن العصيان [، وبعد أن التقطتْ رئيسةُ القسم الأدبي ما في القصيدة من إشارات العصيان والتمرد والثورة، رفضت نشر القصيدة… مع أنها خالية من الخطاب السياسي المباشر…

الصحافة

على ذكر الجرائد في حمص فقد كان في حمص وحدها في أواسط القرن العشرين ما يضاهي عدد الصحف الرسمية والمجلات كلها في سوريا بعد استلام حافظ الأسد السلطة… في حمص كان هناك جرائد منها: فتى الشرق – حمص – صدى سوريا – مجلة (دوحة الميماس) – مجلة (البحث) – مجلة (اليرموك) ثم (الهدى) جريدة (التوفيق) – مجلة (اليتيم العربي) التي تغير اسمها إلى مجلة (الأمل).

في مطلع شبابي كنت أزور مكتبة لبيع الصحف والمجلات في حمص اسمها الينبوع، وصاحبها الراحل عبد الودود تيزيني. الذي كان قبل السبعينيات يصدر مجلة باسم (الينبوع). وعبد الودود هو شقيق المفكر السوري المعروف د. [ طيب تيزيني[ الذي كان يُصنَّفُ دائما على أنه من الطبقة المثقفة المعارضة لسياسة الأسد…

طيب تيزيني وبرهان غليون اثنان من رجال حمص المعروفين في أوساط أكاديمية عربية وأوروبية، وقد ولدا في حي (باب الدريب) الحيّ المعروف بأنه محافظٌ وتقليدي. ومع ذلك فقد خرج من هذا الحي إضافة إليهما رجل آخر اسمه حافظ الجمالي. كنت أسأل كيف يمكن لمكان محافظ إلى درجة كبيرة أن يولد منه فكرٌ تنويريّ يساري علمانيّ؟ ولكنها حقيقة موجودة في حمص.

حمص لها سبعة أبواب مشهورة بها مثلها مثل مدينة دمشق أو مدينة حلب… على نمط بناء المدينة العربية القديمة. من أبوابها المشهورة في الانتفاضة السورية باب السباع وأخيرا بابا عمرو… الحي الأخير عرفه العالم كله من خلال التغطيات الإعلامية اليومية التي كان يقوم بها ناشطون أحرار من الحي تحت الحصار والموت… الحي الذي تحول إلى رمز كبير من رموز الحرية في مسار الانتفاضة السورية. لقد دُمر الحيّ في معظمه وارتكبت فيه مجازر تصل إلى وصف جرائم بحق الإنسانية كما وصفتها منظمات حقوقية معروفة.

في حمص هناك أعياد تسمى أعياد الربيع تأتي في شهري آذار ونيسان متزامنةً مع أعياد الفصح والربيع. وهي أعياد ذات طقوس تجمع الديني والميثولوجي والاجتماعي وتعبّر في جوانب منها عن التعايش بين المسيحي والمسلم من خلال تبادل الرموز والدلالات الدينية وتداخلها في الطقس نفسه. وممّا له معنى أن كثيرا من طقوس هذه الأعياد كانت تنطلق أو تنتهي في حيّ بابا عمرو !!

ومن الغريب والطريف أن هذه الأعياد تأتي يوم الخميس ! لذلك عرفت باسم (خمسانات حمص) وهي:

1 ـ الخميس التايه والضايع

2ـ خميس الشعنونة

3 ـ خميس المجنونة

4 ـ خميس القطاط

5 ـ خميس النبات

6 ـ خميس الحلاوة: وثمة من يسميه «خميس الأموات». أذكر أنني اكتشفت في المكسيك أن هناك عيدا اسمه يوم الأموات… !

7 ـ خميس المشايخ وهو أبرز طقسٍ حمصيّ، ويعيده بعض الدراسين إلى طقسٍ قديمٍ حين كان يتم الاحتفال بانتقال «رمز الإله الشمس» من قلعة حمص إلى مقره الصيفي في معبده الذي كان قائماً مكان جامع أبو لبّادة. اللبادة هي غطاء الرأس الذي يضعه راقصو المولوية.

المثير للانتباه أن مثل هذه الأعياد كانت مناسبة للفرح والاجتماع وممارسة طقوس إنسانية جميلة ساحرة. ولكن النظام منع كل هذه الأعياد لأنها تدور في فلكٍ غير فلكه البعثي العقائدي الأيديولوجي… الآن حمص مثل أي مدينة سورية تتذكر هذه الأعياد في المقالات والكتب… ولم يبق إلا خميس الحلاوة ربما لارتباطه بالسوق والبيع والشراء حيث تمتلئ الأسواق التقليدية بأنواع الحلاوة الحمصية الخاصة. ويصنع البياعون من الحلاوة أشكالاً ومجسّمات مدهشة تغري الناظر إليها لشرائها وخاصة الأطفال…

تحلم حمص الآن أن تستعيد أسماءها بما تعنيه الأسماء من معاني التعدد والثقافة والفرح والشعر والطبيعة… وهي تنتظر من يعيد لها هذه الأسماء بعد أن قدمت آلاف الشهداء في الدفاع عن معنى المدينة وحضورها وأهميتها…

(شاعر سوري ـ مقيم في المكسيك)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى