حميد سعيد: الحدود بين الأيديولوجيا والإبداع مغلقة ودور المثقف إلى تراجع
إشتغال على جوهر الشعر لا ظواهره
حاوره: نضال القاسم
بعنوان ‘شواطىء لم تعرف الدفء’ صدر الديوان الأول للشاعر العراقي حميد سعيد، في عام 1968م، وخلال نصف قرن من الشعر الجميل أغنى الحركة الشعرية العربية بإنتاج شعري ونقدي غزير ومواقف إنسانية وإبداعية مع الحرية وحق التعبير، تمكن ‘حميد سعيد’ من خلال دواوينه العديدة أن يؤسس تفرده وتميزه الواضح في خريطة الشعر العربي وما زال يواصل مشوار التجريب والحداثة والنقد.
وفي تجربة الشاعر حميد سعيد نستطيع أن نكتشف مجموعة متنوعة من الظلال والمعاني الفكرية، ومن القيم والظواهر الفنية، وقد عبّرت أعماله الشعرية بكثير من الصدق والنضارة عن قضايا الأمة ومرارة الواقع، نلمح في قصائده ذلك الاقتراح الحميم بين هموم الشاعر وأشجانه وبين الإنصات الطويل إلى وجدان الوطن وقضاياه، والحديث مع الشاعر حميد سعيد، هو حفر في ذاكرة تاريخية تضم نهراً متدفقاً من الأحداث والمواقف والذكريات.
‘ لماذا اخترت الشعر طريقا وماذا يعني لك الآن؟
‘ ربما يرى البعض أنني أبالغ إن قلت إن الشعر هو الذي اختارني، لكن حين أستعيد طفولة علاقتي بالشعر، اتذكر ما كنت أستمع اليه قبل أن أتعلم القراءة، من أبيات ومقطوعات شعرية تُردد في المناسبات، الدينية والاجتماعية، ومن أهازيج وأغانٍ، وتنويمات الأطفال، وترديدات الباعة وأصوات الملاحين ينقلون بسفنهم الصغيرة ما تنتجه الحقول إلى أسواق مدينة الحلة.
في ذلك العمر، كنتُ أُسحرُ بما أستمع إليه وأحفظه وأردده، حين تعلمت القراءة والكتابة، كانت لي محاولات طفولية، لتقليد ما كنت قد حفظت من تلك النصوص.
وفي مرحلة مبكرة من قراءاتي الأولى التي توَّزعت على ثلاثة مصادر، مكتبة المدرسة والمكتبة العامة في مدينة الحلة، وما كان يقتنيه أحد أخوالي من كتب ومجلات، وبخاصة مجلة الرسالة، وجدتني أكثر ميلاً إلى قراءة الشعر، ومن ثم ما يُعجبُني منهُ، ولم تتوفر لي حرية الإختيار، بل كنت أقرأ ما يتاح لي الوصول إليه من دواوين ومجموعات شعرية وقصائد.
وبعد هذه المرحلة، وفي مرحلة يمكن تحديدها في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي كانت محاولاتي الأولى، إذ كتبتُ قصائد قصيرة ومقطوعات من شعر الشطرين، نشرت بعضاً منها في هذه الصحيفة أو تلك، من صحف تلك المرحلة، ثم انصرفت عن تلك المحاولات إلى الرياضة والسياسة حيناً، ومن ثم حاولت كتابة مقالات، كنت أحسبها من النقد، ونُشرت في منابر لا بأس في مستواها المهني ومعاييرها في النشر، لكن سأكتشف أن ما كتبته من مقالات، تعتمد انطباعات لم تبتعد كثيراً عن البراءة والنيات الحسنة، وكانت العودة الحقيقية إلى الشعر، بوعي حداثي في أواسط الستينيات، وهي البداية التي ما زالت تتواصل حتى الآن، فجميع ما أنجزته في مسيرتي الشعرية الطويلة، يبدأ من هذه العودة.
منذ أن أقمت في عمّان بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث تحررت من كثير من مسؤولياتي وواجباتي ومشاغلي، وما عاد لي إلا أن أنصرف لنفسي، حيث أعيش في ما يُشَبه العزلة، فإن الكتابة وموجتها العالية في الشعر، هي التي تستأثر بي، بوقتي وتأملاتي واستجاباتي، وإلى حدٍ ما علاقاتي.
لقد أنجزت منذ أن أقمت في عمّان، أربع مجموعات شعرية، آخرها، ‘أولئك أصحابي’ التي لم أقدم على نشرها بعد، وإن كنت قد نشرت عدداً من قصائدها.
وسأعترف بأنني صرت أكثر ذاتية، في ما يتعلق بشعري، وليس بسواه، إذ صرت أكثر حرصاً على إيصال ما أنشر إلى الآخرين، واكثر اهتماماً بما يُكتب عن تجربتي الشعرية. واكثر استجابة، لما يُطلب منّي، من كتبي أو مما كُتب عن شعري، وأحرص على إيصالها، بالوسائل التي تُتاح لي، وعلى سبيل المثال، تجدني على علاقة دائمة بالبريد، مُرسلاً ومتلقياً.
إن هذا التوجه الذاتي لم يحل دون أن أواصل اهتمامي بجوهر كتابتي الشعرية في البحث الدائم عن جديد يضيف إليها، ويعدد مساراتها، وإن النزعة التجريبية التي رافقت كتاباتي الشعرية باستمرار، صارت الآن أكثر نضجاً، وأكثر عمقاً في اشتغالها على جوهر الشعر وليس على ظواهره، كما كان يحدث أحياناً في البدايات.
‘ الشعر العربي بين ستينيات القرن الماضي والشعراء الشباب اليوم، ماذا ترى؟
‘ أي تقويم للإبداع ومنه الشعر، يعتمد على الصوات الأكثر تميزاً، وحين نقوّم مرحلة شعرية ما ، نذهب إلى تلك الأصوات، وليسَ إلى كلّ ما ينتج من شعر في تلك المرحلة.
إن اعتماد هذا المعيار، رافق شعرنا العربي في جميع مراحله، وكذلك الأمر في شعر الأمم الأخرى، في الماضي والحاضر.
وعلى سبيل المثال، حين نقوِّم الشعر العربي في العصر العباسي، حيث عرف الشعر أهم تحولاته عبرَ أهم أصواته الشعرية، فإن حديثنا ينصرف إلى عدد قليل من الشعراء، وليسَ إلى ما كتب من شعر وما ظهر من شعر وقتذاك، وكذلك حين نتناول شعر عصر النهضة أو شعر الكلاسيكيين الجدد أو الرومانسيين، أو شعر الرواد الذين اقترنت بداياتهم بالنصف الثاني من الأربعينيات في القرن الماضي، فإذا اعتمدنا هذا المعيار، يمكن الإجابة على سؤالك بالقول، إن حاضر الشعر العربي ما زال يغتني بأصوات وتجارب شعرية، مؤثرة ومتميزة وموهوبة ومهمة لها حضورها على صعيد القراءة والنقد والدرس الأكاديمي، ومجالات أخرى من تلك التي تؤكد هذا الحضور.
أما ما يمكن قوله عن جيل الستينيات، فهو جيل شعري كبير الأهمية والحضور والتأثير، وقد نبهت مرات عديدة إلى أن هذا الجيل الذي اقترنت بداياته بالعقد السادس من القرن العشرين، لم يكن جيل عقد شعري واحد، بل انفتح على الزمن الآتي وما زال عدد من شعرائه يواصلون التجديد والتجريب والإضافة.
إن القصيدة الحديثة التي شكلت حركة تجديدية، وليس مجرد محاولات فردية، وإن اغتنت بالمواهب الفردية الاستثنائية. أقول إن القصيدة الحديثة التي بدأت مع الرواد في خمسينيات القرن الماضي، كانت بداية على أهميتها، فقد كان لابد لها من التركيز على قضية شكل القصيدة، أي من الشطرين، إلى الشطر الواحد، على اختلاف عدد التفعيلات في هذا الشطر، لذلك لم تنطلق الحركة التجديدية الشعرية، إلا في الستينيات، وتحول التجديد من السطح إلى العمق ومن محددات العروض إلى آفاق الإيقاع.
ومن المهم أن نذكر هنا، إن الإنجاز الستيني في حركته التجديدية، وبفعل حيويتها وأصالتها، دفعت معها قصيدة الرواد، إلى آفاقها المفتوحة، وسنجد إن قصيدة الرواد منذ الستينيات تخلّت عن تحفظاتها، وشاركت الستينيين في ما بدأوا به.
أما الاختلاف بين الشعراء الشباب اليوم وشعراء الأجيال السابقة، ليس اختلافاً في الاستعدادات أو في المواهب والقدرات، وإنما الاختلاف في الظروف العامة منها، حيث للشعر حاضنته الاجتماعية، وظروف الواقع الثقافي والأدبي تحديداً، إذ كانت معيارية في جميع منابر النشر، من صحف ومجلات ودور نشر، لا تسمح بنشر ما هو ضعيف إلا في القليل النادر، وهذا ما جعل توازناً بين ما ينشر من شعر وبين القارىء، ومن ثم الشعر والتلقي النقدي والأكاديمي، والإعلامي أيضاً.
لقد كانت المواهب الشعرية عند الأجيال السابقة أكثر حَظاً من الجيل الحالي الذي يَتسِّعْ إنتاجه بسبب غياب معيارية النشر أو ضعفها، فيختلط الحابل بالنابل، وتضيع احياناً حتى المواهب المبشرة أو الكبيرة، وتخسر فرص ترسيخ حضورها الإبداعي، لكن المتلقي المتابع يستطيع أن يكتشف أهمية بعض هذه المواهب، وأهمية ما تضيف في ما تكتب إلى حركة الشعر العربي المعاصر.
‘ ما هي حدود الايديولوجيا والإبداع؟
‘ بعيداً عن التنظير وطوفانه العالي، واستضاءة بدروس التجربة الذاتية في العمل الإبداعي التي اقتربت منها وعرفتها وتعلمت منها، أقول من دون تردد، إن الحدود بين الأديويولوجيا والإبداع، مغلقةً، وهذا رأي لم أقرأه في المصادر المعرفية أو تعلمته في الدرس الأكاديمي، بل عشته واكتشفته بالتعايش معه.
إن التناقض بينهما يأتي من التناقض بين وظيفتيهما ودوريهما، فالإديولوجيا تضع الصوى على الطريق وتجيب على الأسئلة، والإبداع ينفتح بعيداً في أفق الحياة، وينتج الأسئلة، وإن أخلاقيات النص الشعري، تتضمن في جمالياته، كما تتضمن القوة في تيارّات المياه، أو كما تتضمن الفكرة في الجمال، وهذا ما يميز الإبداع الشعري عن سواه من فنون القول، لذا يكون الالتزام، هو مزيد من الألق الإبداعي لتوحيد الفكر بالجمال.
‘ بعيداً عن الشعر، كيف تقيم الواقع السياسي العربي الراهن؟
‘ أما الوضع العربي فهو يمر الآن بما هو أسوأ مما كان عليه طيلة نصف قرن، وهذا ليس بغريب، فقد اعتدنا أن نراه هكذا، كلما حاولنا أن نراه.
أما دور المثقف في المتغيرات الجذرية ‘الحالية’ كما ينصّ على ذلك السؤال، وليس الأمر كذلك في الواقع، فأين هي المتغيرات الجذرية؟! هل هي الخراب الذي يظهر في كل مكان؟! أما دور المثقف العربي فهو في حالة من الإلتباس الدائم، فليس هذا الذي نسمعهُ أو نقرأه لمثقفين عرب، من تعقيبات، وتعليقات، هو دور المثقف، وليس اندفاع البعض الآخر في نشاطات ممولة تمويلاً مشبوهاً وتغطى بشعارات مُلتبسة، ولا أولئك الذين يتاجرون باسمائهم الثقافية.
وهل علينا أن نصدق أن مجرد مشاركة شخص ما، في حوار سياسي على إحدى شاشات التلفزة وإطلاق أقوال على عواهنها، هو دور إيجابي، أو أن يقف آخر في إحدى الميادين التي يتجمع فيها معارضون حيناً ومؤيدون حيناً آخر، هو دور ثقافي فاعل؟!
إن الدور الثقافي الحقيقي الذي يؤدي إلى متغيرات حقيقية، هو الذي يتشكل في إطار ثقافية عامة، وأن تكون هذه الحركة الثقافية، تسبق المتغيرات او الانتفاضات وتُهيىء لها وترافقها، وليس الظواهر الصوتية التي تندفع مع جميع المتغيرات وبخاصة تلك التي ترتبط بقوى نافذه أو سلطات حاكمة، حتى وإن كانت تلك المتغيرات متناقضة.
القدس العربي