حنجرة
رامي الأمين
“هي الجزء الأمامي من العنق، عريضة من أعلى، مثلثة الشكل، وتتكون من غضاريف عدة تتحرك بوساطة عضلات مبطنة بغشاء مخاطي، يمتد في تجويفها الحبلان الصوتيان، حيث ينتج الصوت من طريق الهواء المدفوع من الرئتين ليذبذب الأحبال الصوتية. وتحرس مدخل الحنجرة زائدة غضروفية تسمى لسان المزمار، له دور مع حركة الحنجرة عند الابتلاع. تُعتبر الحنجرة الأداة الأساسية لحدوث الصوت، فهي آلة إنتاج الصوت التي تولّد معظم الطاقة الصوتية المستعملة في الكلام، وهي عبارة عن حجرة متَّسعة تظهر على شكل صندوق غضروفيّ دائريّ يقع في منتصف الرقبة تقريباً”.
للحنجرة ايضاً دور يتخطى وظيفتها البيولوجية. هي منبع الصرخة ضد القمع، هي انفلات الصوت من صدى البئر المظلمة إلى فضاء الحرية المطلق، هي الهتاف الذي يوقظ الموتى من سباتهم ويسألهم أن يعودوا إلى الحياة. الحنجرة آلة موسيقية يكرهها الكارهون، ويخشاها المتزمتون، وينبذها الجاهلون. وهي منفذ الهواء، شبّاك الجسد، إطلالة الروح على ملاعب الصوت. الحنجرة حشرجة الألم. صرخة المولود الأولى. صرخات الأم في المخاض. تأوّه اللذة المتحررة من الكبت. الحنجرة سعال المريض في صراعه مع المرض. الحنجرة حسيس النار في التهامها الجسد المنتفض، وهي صوت الشعب حينما ينطق، وهي بديل اللسان حينما يعجز.
لهذا ربما نفهم لماذا يُقدم شبّيحة النظام السوري على اقتلاع حناجر الصادحين ضده. يمارسون، إلى همجيتهم في التعنيف الجسدي، نوعاً من الاستئصال الجراحي لأعضاء بشرية كالحنجرة، لها دور فاعل ورمزي وحاسم في تحريك الشعب وتجييشه ضد القمع. كأنهم يعرفون تماماً ماذا يفعلون، ويفقهون تماماً وظيفة الحنجرة. أكاد أخشى أن يكون بين منفّذي الجرائم هذه أطباء متخصصون، يستأصلون الحنجرة بشكل خالص، ونظيف، ينتزعونها كما هي، ويجرون التجارب عليها. يريدون معرفة هذه القدرة الهائلة على إخراج الصوت وكسر الصمت. يشرّحون هذه الظاهرة التي لم يألفها النظام السوري منذ عقود. يمنهجون القمع ويجعلون نتائجه علمية، ومع ذلك يجافيهم المنطق، ويعيدهم إلى النقطة الصفر. يدورون في حلقة مفرغة، تحاصرهم الحناجر. ببساطة يظنّون أنهم إذا استأصلوا حنجرتَي ابرهيم قاشوش وغيّاث مطر يُسكتان أغنية الحرية التي يصدح بها الشعب السوري. لكن الحنجرة تكذّب الشبّيح. تصدح حتى وهي بين يديه الداميتين، يرميها ويظل يسمع صوتها. يدفنها ويخرج صوتها من تحت التراب.
في “لسان العرب”، كل العرب، حَنْجَرَ الصوت تعني ذبحه. وبلغت القلوب الحناجر، أي صعدت عن مواضعها من الخوف إليها. بين الذبح والخوف حدّ سكّين. لكن العرب، كل العرب، بدأوا يعون أن الذبح الذي تمارسه الأنظمة، كل الأنظمة، لا ينال من إرادتهم في التغيير.
عندما هاجموا علي فرزات، فنّان الكاريكاتور السوري، وضربوه، ركّزوا على تكسير أصابعه، لكي يمنعوه من الرسم. حنجرة فرزات بين أصابعه، لذا حاولوا ايضاً كتم صوته بتكسير أصابعه. في اليوم التالي خرج رسم لم يُعرَف منفّذه، موقَّع باسم علي فرزات، يظهر فيه الفنان في المستشفى وقد كسرت كل أصابعه، ما عدا الإصبع الوسطى في إحدى يديه، شهرها في وجه الشبّيحة الذين اعتدوا عليه، كدليل أن الصوت لا يزال صادحاً، وأن شيئاً لن يوقف ترددات الصوت من بلوغ هدفها الأسمى.
هذه ثورة الحناجر. تحدّي الصوت للصمت. وتحدّي الحناجر الصادحة بالحرية للحناجر المنادية بالقمع والمبررة له، ولمشارط الشبّيحة وكواتم الصوت. سيكتب التاريخ أن الحناجر انتصرت على المشارط، كانتصار العين على المخرز. ربما أكثر.
النهار