حنفية علي فرزات/ بشير البكر
في ذلك الصباح حين رن الهاتف، عرفت أن الحديث مع شقيقتي التي تكبرني بعامين، لن يسير على ما جرت العادة، بل إنه يحمل أخبارا غير سارة. منذ مطلع هذه السنة كانت بالكاد تتصل بي، ولكنها ظلت تبادر بين الفينة والأخرى لوضعي في صورة أخبار بقية أفراد العائلة، بعد أن تعذّر الاتصال من جانبي. وهي التي ليس لها من هم سوى مساعدتي على البقاء في وضع معنوي حسن، بقيت ثابتة عند قناعة منذ الأيام الأولى للثورة، فحواها أن سوريي الداخل أكثر توازنا وثقة بالنفس من اشقائهم في الخارج، لأنهم يعيشون تفاصيل سوريا الجديدة، بحلوها ومرها.
لا أرى منامات، إلا على فترات متباعدة، لكن بين حين وآخر كان يداهمني كابوس عاصف، هو في غالب الأوقات عبارة عن خليط ما بين استيهامات، وعناصر حقيقية لحكايات أحلمها أو أفكر بها عادة. وما سمعته هذه المرة من شقيقتي لم يكن يختلف عن الخلطات المعتادة، إلا في مقدار المسافة بين ما نسمع عنه وما نعيشه. لم يكن كابوسا لأن دقات قلب تلك المرأة وصلت إلى أذني، وتعالى صداها بقوة. في تلك اللحظة أدركت بأن الثورة هي قبل كل شيء، عملية التحول التي مر بها السوريون الذين بعد أن هزموا الخوف، صاروا يرون الموت من أجل الحرية أمر عاديا. ولذا حين ننظر نحن من الخارج لجثث الشهداء وهي ملفوفة بأكفان بيضاء، فإن أكثر ما يتبادر إلى أذهاننا هو هذه المسافة القريبة والأليفة بين الاحياء والشهداء. ذلك أيضا يشبه دوار الدوامة، وكلما مرت الأيام، تعاظم الأمل واليأس في أقصى المشهد وصارا لا يُحتملان كلاهما..لكن ذلك هو الطريق الوحيد إلى نهاية النفق الذي كان يبدو بلا نهاية.
لم تكن تبكي، كنت احسها تريد أن تحلّق، تهدر كالطائرة قبل أن تقلع عن أرض المطار: ” ابني مثل بلدي..ولدي الأول، ثم ولدي الثاني”. تتنفس على إيقاع واحد، نفس للغضب والانهيار. أفتح قلبي وعيوني لهذه اللحظة التي صار فيها البكاء يشبه رد فعل عدمي. أظن أن اللحظة ستظل واقفة بيننا، لأن هذا الأمر لا يواجه إلا بالصمت، كونه يفوق مستواي، ولو تكلمت لكان تكلفا.
كلما طال أجل الثورة السورية تعددت اتجاهات النظر نحوها من زوايا مختلفة، وسواء التقت النظرات أو ابتعدت أو تقاطعت فإن النتيجة تبدو واحدة، في نهاية المطاف سوف يخرج النظام مهزوما. ولذا لم تعد الغالبية السورية تقيس الوضع على حساب المرارات التي لا تنتهي. هذه الحرب تقتل الشخص لتوقظ الشخصية.
لعلي فرزات أكثر من تفسير للثورة السورية. قبل كل شيء هي لا تقلد غيرها، “تسونامي” إنساني، لم يأت بفعل الحركات السياسية، بل هو ما يلفظه المجتمع من أوساخ القاع، لتنظيف نفسه مما ترسب فيها لعدة عقود. وبعد أن يجرف “تسونامي” في طريقه الخراب والتشوه الذي أصاب الجسد العام، سوف تعود الطبيعة الأولى إلى نظامها الخاص.
النظرية الأطرف لعلي فرزات، وهي نتاج مزاوجة بين ذهنية البيئة الشعبية وخيال فنان الكاريكاتور، تقوم على فكرة الحنفية (صنبور الماء). يشبّه فرزات سوريا بالحنفية المغلقة منذ خمسين سنة، التي علاها الصدأ وامتلأت مساربها بتراكمات كثيرة. ولذا فإن فتح هذه الحنفية يحتاج الى جهد غير عادي، ولكن حين تبدأ بضخ الماء من داخلها فإنها سوف تلفظ أوساخ خمسين سنة، قبل أن تصل تدريجيا إلى حالة من الصفاء التام. ومن هنا ينسب فرزات الشوائب التي نمت على حواف الثورة خلال عامين، إلى الماضي، ويعتبرها ظواهر عابرة.
المدن