صفحات الحوار

حوارات في المسارات المتعاكسة عنواناً، حازم صاغية نموذجاً

حازم صاغية، روجيه عسّاف، فواز طرابلسي، دلال البزري، عباس بيضون، الفضل شلق، السيّد هاني فحص، توفيق هندي، محمد عبد الحميد بيضون. نماذج جدلية اختارت الكاتبة والصحفية ثناء عطوي الإضاءة على تجاربهم السياسية وانتقالاتهم وتموضعهم من حزب وعقيدة إلى الآخر المختلف تماماً أو المناقض لبديهيات الذي سبقه.

تقول عطوي في مقدمة كتابها «غادر الكثير من المثقفين مواقفهم المُعارضة إلى ملاعب السلطة، أو الأحزاب أو المنظمات الثورية. انزلقوا إلى تموضعات وإلى عُصب وجماعات. 
استدرجتهم محاولة اختبار فعالية الانتماء إلى النظام الطائفي والكيانية اللبنانية وقضايا إقليمية عدّة، وقدّم بعضهم المسألة الطائفية على قضايا الوطن، وقدّم كلّ مثقف أطروحته على أنها تطوّر أو تراكم أو صيرورة أو انكفاء أو ضرورات، أملتها الحرب وظروف السلم، أو الهزائم والإنتصارات، أو الذوبان في الكيان الحزبي الشامل».

فيما يلي، المقطع الخاص بمقابلة الزميلة عطوي مع الكاتب والصحفي حازم صاغية:

ولد في سييراليون سنة 1951، عمل في صحيفة “السفير” اللبنانيّة بين العامين 1974 و1988، ثمّ انتقل إلى لندن للعمل في صحيفة “الحياة”. يكتب عموداً ويرأس تحرير ملحق “تيّارات” السياسيّ الأسبوعيّ. له عدد من المؤلّفات في السياسة والثقافة السياسيّة العربيّتين.

اتخذ المواقف الأكثر تطرفاً في مساره السياسي والفكري، من البعثية إلى القومية السورية إلى الشيوعية وصولاً إلى الإسلاموية، وهي تجارب جعلت من تحوّله إلى  الاشتراكية الديمقراطية لاحقاً، ولبنانويته الصرفة أمراً ممكناً.

استوقفته التطورات السياسية للعديد من الحركات والأحزاب في لبنان والعالم، ونحت بمساره في اتجاهات مختلفةً. اكتشف الماركسية في بريطانيا، وكأنّه اكتشف أرضاً جديدة، حيث الولوج إلى مخزون ثقافي جديد، إذ مثّلت الماركسية حينها تغييراً ونقلاً لخطّه الفكري من أرضية إلى أخرى، وأدّت إلى قطيعة بينه وبين البيئات والتيارات السياسية التي انتسب إليها أو آمن بحقيقتها.

كتب بجرأة وصراحة تجربة الذات وتتابُعها، أو سيرته الذاتية التي أصبحت بطبيعة الحال من زمن آخر، وتميّزت بمضمون نقدي قاس للذات وللمراحل التي عبرها، وببناء نظري وعملاني متين.

يُطلّ صاغية منذ سنوات عبر المقالات وأعمدة  صحيفة “الحياة” اللندنية. يشغل مسؤولية صفحات الرأي فيها، وهو يبدو كمن استكمل تدريجياً الأفكار واستخلص الدروس، مدافعاً مكيناً عن أفكاره المناقضة  لشعارات ومضامين انتماءاته السابقة كلّها.

لنتحدث بداية عن المحيط الاجتماعي والأسري الذي ساهم في تشكّل وعيك.

نشأت في بيت من الطبقة الوسطى من عائلة أرثوذكسية، وفي مناخ يتّصف بالعروبة الثقافية. وكان لاشتغال خالي، وهو محامٍ، في السياسة، ومتأثّر بأفكار البعث بعد دراسته في دمشق، أن جعل البيت على العموم ذا هوى عروبي ناصري وبعثي. وكان أيضاً حبّ جدتي للشعر العربي رافداً لهذا الاتجاه، لكني لم أنتسب في تلك الفترة إلى البعث، لأني كنت صغيراً، تحت السن الذي حدّده الحزب لانتساب الراغبين إلى صفوفه.

أخذتم على الناصرية في تلك الفترة غياب التنظيم الشعبي لديها، كيف ذلك وبأي معنى؟ وما كان دور تنظيم “الطليعة العربية” السرّي الذي انتسبت إليه؟ وبماذا كان يختلف عن حزب البعث؟

كان البعثيون ينتقدون عبد الناصر لأنه لم يكن لديه تنظيم شعبي، وهذا يعني ترك الجماهير في حالة فراغ. وبالتالي يستطيع أي عدو أو متآمر أو متربص أن يؤثّر سلباً على الوضع الثوري، من دون أن تكون الجماهير معبأة لكي تتصدى له. هذا هو النقد البعثي لعبد الناصر، وكانت هذه الحجة تتردّد. أما “الطلعية العربية” الذي انتسبت إليه في حين لم أنتسب إلى البعث، فهو حزب سري، لا يمكن الحديث فيه عن حياة حزبية، لأنه عمل سرّي محض. كنا نتحدث عبر الهاتف بطريقة مُبهمة وأسماء مستعارة، لنتفق على تحديد موعد للقاء أو اجتماع، نتناول فيه شؤوناً سياسية يومية. لكن ما الذي كان يستدعي في تلك الفترة تنظيماً سرّياً من هذا النوع؟ سؤال طرحناه لاحقاً، وتبيّن أن المخابرت المصرية كانت هي وراء التنظيم، وربما العقل المخابراتي لعب دوراً في ذلك. وأيضاً كانت لدى عبد الناصر رغبة في عدم الظهور وكأنه وراء أحزاب تتدخّل في شؤون الدول العربية. أعتقد أن ذلك كان وراء سرية التنظيم.

انتقلت بعد ذلك إلى الحزب السوري القومي، علماً أنكم في البعث كنتم تضعون القوميين  في خانة الأعداء وتصفونهم بالعملاء الملتحقين بالإنكليز والملك حسين، ما الذي دفعك إلى الالتحاق بهذا الحزب؟

السبب الأهم هو هزيمة 5 حزيران، فهي ولَّدت لدينا نوعاً من الإحباط واليأس. لم أكن حينها على بيّنة من الفكر السياسي القومي العربي، وإلا لكان حصل لي ما حصل لآخرين أكبر سناً مني بقليل، وأكثر إدراكاً سياسياً آنذاك، ممن انتقلوا من الناصرية والعروبة إلى الماركسية وليس إلى القومية السورية. بمعنى أن صدمتي من الناصرية والبعث كانت نقلتني إلى الماركسية وليس إلى القومي، وهكذا  بدل أن أتقدم إلى الأمام كانت نقلة إلى الوراء.

اعتبرت لاحقاً أن انتسابك إلى الحزب السوري القومي كان عاراً، وقلت حرفياً: “كم يتجسّد العار صورة حين أسترجُعني رافعاً يدي اليمنى زاوية قائمة هاتفاً تحيا سوريا”. لماذا الشعور العارم بالعار؟

لأن الحزب القومي هو حزب فاشي. في تلك الفترة لم أكن أعرف ذلك فانتسبتُ إليه. بقيت سنة قرأت خلالها الكتب الماركسية، وفهمنا بالتدريج في أيّ مكان نحن، وما هو الحزب القومي. إنه حزب فاشي وخطير بدعوته العنصرية وبدعوته اللاسامية وبعلاقته بالزعيم.

اشتغلت بالسياسة في عهديْ زعيمين كبيرين هما عبد الناصر وأنطون سعادة، أين يتقاطع الزعيمان وأين يفترقان؟

عبد الناصر لم يفرض نفسه بقوة نظام عسكري وتنظيمي. إنه قائد شعبي. والتعلق بالقائد هو من صفات شعوب العالم الثالث. في حين أن أنطون سعادة أسّس حزباً أحد أهدافه الرئيسية عبادة شخصه. إن قسَم يمين الولاء يتمّ له، ويتعهّد المُنتسب مع كل أفراد أسرته بتعليق صوره ورموز حزبه في المنزل. لا مكان للحرية والاختيار. كما أن الاستقالة من الحزب السوري القومي ممنوعة. ممنوع هذا الخيار لمن يريد ذلك. وهذه كلّها من مواصفات الحزب الفاشي. أضف إلى ذلك أن الزعيم هو مطلق الصلاحيات، وهذا أمر فاشي جداً، كذلك كلام أنطون سعادة عن الجماجم وعن الشعوب المنحطّة وعن اليهود.

بمن كنت متأثراً في تلك الفترة، بأنطون سعادة مثلاً أم بعبد الناصر؟

ولا مرّة كنت متأثراً بأنطون سعادة. ولا مرّة شعرت بصلة عاطفية تربطني به، فيما كانت لدي صلة عاطفية تربطني بعبد الناصر الذي اخترته أنا ولم يفرضه علي أحد. وهذا الفرق الأساسي. علماً أنني كنت موجوداً في البعث والناصرية لأنه لم يكن يوجد بديل عنهما في تلك الفترة.

كيف تنظر إلى صورة الزعيم اليوم؟

تعلّمت شئياً من هذه التجارب السياسية والحزبية، وهو عدم الإيمان بالزعامة وبالقائد المعصوم، مثل صدام حسين وحافظ الأسد وغيرهما، هؤلاء كوارث على مجتمعاتهم وشعوبهم ودولهم.

لكن أليس الزعيم ضرورة في المجتمعات؟

ضرورة للحالة الاستبدادية، أي من أجل الوصول إلى السلطة بنظام استبدادي. لكن إذا ما كان يريد أن يؤسّس لنظام ديمقراطي، فهو يحتاج إلى عقل وإلى أفكار، ويُخاطب الناس بالعقل والمنطق وليس بالنبرة والإشارات والرموز والصراخ والتقديس.

من القومي السوري إلى الشيوعي، هل انتسبت إلى الحزب الشيوعي أم أنك كنت ماركسياً بالفكر؟ وأنت قلت إن الماركسية بدت كمنظومة متجانسة تأسر الوافد إليها من تجارب ضعيفة الصلة بالعقل والتنوير؟

لم أنتسب إلى الحزب الشيوعي أبدأً. عموماً أنا لم أنتسب إلى أحزاب ما عدا الطليعة والقوميين. قرأت كتباً كثيرة وتأثّرت بالأفكار الماركسية. الأجواء التي أحاطت بي أثناء وجودي في بريطانيا  في السبعينيات كانت ماركسية. قراءاتي، كتبي، أصدقائي، مثل وليد جنبلاط، وجوزيف سماحة وآخرين.

هل انشغلت بالسياسة أثناء وجودك في بريطانيا؟

قرأت الكتب الماركسية بكثرة وتعرّفت إلى بعض اليساريين بريطانيين وعرباً وعراقيين. أدركت أن العالم أوسع مما قدّمه لنا الفكر السوري القومي أو الفكر العربي. وأصبحت أهتم أكثر بمسائل عالمية، مثل العلاقة بالصراع الإيرلندي البريطاني وتاريخ المسألة اليهودية. احتككت بشكل أوسع ببيئات مثل التروتسكية وغيرها، لكني لم أنتسب إلى أيّ منها. الانتساب الوحيد أو محاولة الانتساب حصلت بعد عودتي من بريطانيا. في تلك الفترة تعرض خالي للقتل، وفضّل الشباب أن أبقى صديقاً لمنظمة العمل الشيوعي وأن ألعب دور وجيه وطني أو شيء من هذا القبيل، لأن ذلك كان برأيهم سيساعدهم أكثر مما لو كنت منتسباً بشكل رسمي، وبالتالي سيمكّنني من أن ألعب دوراً أوسع من دوري الحزبي. هكذا لم أنتسب حينها وبقيت ماركسياً فقط.

  بقيت ماركسياً حتى الثورة الإيرانية؟

لا أستطيع أن أقول إني لم أعد بعد الثورة الإسلامية ماركسياً. في هذه الثورة صنعنا لأنفسنا ماركسية من نوع آخر. ينبغي أن نراعي دور الدين أكثر في هكذا مجتمعات، لأن الدين أقوى من الطبقة الاجتماعية على إحداث ثورة، بدليل ما حصل في إيران. لم أقل إنني لم أعد ماركسياً، وإنما ماركسي أكثر انتباهاً لمسائل مجتمعاتنا المختلفة عن المجتمعات الأوروبية.

خلال الحرب الأهلية أين كنت؟ وما كان موقفك من الحرب ومن القضية الفلسطينية؟

كنت مع اليسار اللبناني ومع النضال الفلسطيني. كنت مع إسقاط النظام إذا أمكن وتغيير الأوضاع وتحويل البلد إلى قاعدة للثورة الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين. بداية الثمانينيات، بدأت تظهر أفكار أخرى، وكانت التجربة وصلت إلى ذروتها مع الخميني. بعدها شعرنا أننا ارتكبنا خطأ كبيراً في التفكير الراديكالي والرؤيوي والثوري. انتبهنا أكثر إلى أننا نعيش في مجتمع، إذا كنا لا نستطيع أن نوحّد فيه المسلم مع المسلم والسني مع الشيعي، وإذا كنّا غير قادرين على خلق إجماعات، فلن نستطيع أن نحقّق لا وحدة عربية ولا وحدة إسلامية؛ أي أننّا إذا ما حررنا فلسطين ودخلنا في حرب أهلية دمّرت البلد فهذا ليس مكسباً. إذن بدأت تولد فكرة أساسية، وهي أن الأهم هو أن تكون لدينا دولة طبيعية، أكانت يسارية أم يمينية، المهم أنها دولة، وبعد أن تتحقّق نناضل سياسياً وحزبياً ومذهبياً وصحافياً للانتصار للبرنامج الذي نريده، لكن الدولة هي شرطنا الأول والأساسي لحصر وسائل العنف.

من الماركسية والشيوعية إلى الإسلاموية. بايعت مبكراً الثورة الإيرانية وكتبت مقالات دفاعية عديدة عنها في صحيفة “السفير”، بغض النظر عن موجة الكره والحقد ضد نظام الشاه، ما الذي دفعك لتأييد ثورة الخميني؟

كنا خارجين من هزيمة 67 عربياً ومن حرب السنتين على المستوى الداخلي. بعدها ذهب الرئيس أنور السادات إلى القدس وسوريا  في حرب السنتين العسكرية وشعرنا أننا مهزومين على مختلف الأصعدة. في هذا الوقت استطاع الخميني أن يُسقط نظام الشاه. وكان واضحاً آنذاك أن اليسار والقوميين العرب انهزموا، في حين أن الإسلام ربح ضد نفس العدو وهو شاه إيران. في هذه الحالة تبيّن أن الإسلام هو الأداة الأفعل في مكافحة الإمبريالية، فكان علينا أن ننتبه إلى الثورة الإيرانية، ونرى من ضمن العالم الإسلامي والتصور الإسلامي العريض كيف سنعمل. هذه القناعات هي التي كانت سائدة آنذاك. لكن ما إن بدأ النظام الإيراني بتصفية مواطنيه الذين فكّروا بشكل أو بآخر بهذه الطريقة، من بني صدر إلى إبراهيم يزدي، بدأ شخص مثلي ينتبه إلى وجود خلل في هذا الواقع. أدركت أن هؤلاء جماعة استبداد ديني وأصحاب سلطة ثيوقراطية دينية.

هل جاء التأييد العالمي الداعم للثورة الإيرانية  نتيجة ضعف قراءة للثورة، أم بسبب غياب تجارب مماثلة في التاريخ أم ماذا؟

ليس بالضرورة أن يتعلّم الناس من كل ما يحدث. وفي بيئة المثقفين عموماً، هناك ضعف حيال الزعيم والقائد والجماهير والثورة والحدث الرؤيوي. ما يُحرّك مكاناً ما فيهم، هو رغبتهم في عالم منسجم، أو تعويض عن عدم فعاليتهم هم في تغيير الوضع. كل هذه العوامل تجعل الواحد منا يمرّ في لحظات جنون أو شبه جنون، أن يجمّد عقله ويندفع وراء حماسته.

وصفت الإمام الخميني بالإله الكالح، وصوَّرته قاسي النفس والملامح، وكتبت أيضاً مقالات عدّة ضد سياسة إيران وسياسييها، كيف ترى اليوم إلى واقع هذا البلد؟

أولاً أنا أرى الخميني هكذا كالحاً معتماً عابساً كارهاً للدنيا، لا يحتمل المعارضة ويعرف الحقيقة بالكامل. إنه نائب عن الإمام الغائب. والأخطر برأيي أن إيران كانت في حالة أفضل والخميني نفسه أعادها إلى الوراء. المجتمع الإيراني كان متقدّماً على نظامه، أعتقد أن الفرق بين السعودية وإيران، هو أن النظام السعودي أكثر تقدّماً من المجتمع السعودي، وهو يتمنى أن يخفّف من تشدّده ويتّجه نحو الغرب لكنه لا يجرؤ أن يطلب منه ذلك، فيما إيران على العكس، أي أن الشعب متقدّم والسلطة متشدّدة ورجعية.

هل تعتقد أن إيران تشكّل خطراً فعليا في المنطقة؟

في ظل النظام الحالي نعم، وبهذا المعنى نحن شركاء مع الشعب الإيراني بتعرضنا لنفس الاضطهاد، فإيرانيون كثر لهم مصلحة في تغيير النظام.

كيف ترى اليوم إلى واقع الأحزاب في لبنان؟

  في الحياة السياسية الديمقراطية لا بد من أحزاب. لكن بحسب الأحزاب. هناك نمطان مختلفان من الأحزاب. أنا مع أحزاب انتخابية لديها برامج اجتماعية على طريقة حزب العمال البريطاني أو الحزب الديمقراطي الأميركي، وليس الأحزاب التوتاليتارية الاستبدادية المخيفة. أنا مع الأحزاب التي نتّفق على الإطار العريض لتوجّهها، كفرض ضرائب عالية على الأثرياء مثلاً، أو ضرورة وجود كفاءة في الإدارة المدنية، تجمعنا معها قوانين لحماية المساواة بين المرأة والرجل، وقوانين لحماية حق التعبير، ووجود حريات صحافية أوسع، أي أن عملها ليس سرّياً، ولا توزّع المناشير ليلاً أو تتآمر لإسقاط سلطة أو توزّع السلاح.

أي من الأحزاب اللبنانية تجده أقرب إلى ما تقول؟

أجواء الكتلة الوطنية وأجواء اليسار الديمقراطي فيها شيء من هذا النوع. اليسار شباب وصبايا يلتقون ويتحدثون ويحييون المناسبات على طريقتهم، لكنهم ليسوا قالباً مسكوباً. هؤلاء الشباب يشتغلون على قضايا صغيرة، لكن المطلوب عقد اجتماعات على موضوعات أساسية، مثل نزع السلاح وغيرها من القضايا الخلافية في البلد.

تركّز كثيراً على موضوع السلاح وكأنه هاجسك الأساسي.

لأنه إذا لم تتحقّق وحدة البندقية في المجتمع واحتكار الدولة لوسائلها يبقى كلّه كلاماً بكلام. السلاح في يد طرف واحد سيُحدث فجوة عميقة جداً بين اللبنانيين، وسيؤدي هذا في لحظة ما إلى نزاع أهلي مفتوح أو تقسيم أو غيره. من حيث المبدأ وكافتراض نظري، لا أحد يستطيع أن يعيش مع آخر مُسلَّح.

هل تعتبر نفسك مثقفاً قلقاً أم مطمئناً تجاه ما يجري من ثورات في الوطن العربي؟

يمكن أن تضعيني فيما أسميته خانة “المثقّف القلق” لأنّ هذه الثورات فاجأتنا كثيراً ولا تزال تفاجئنا بما لا نتوقّع، فضلاً عن أنّها أطلقت تيّارات وقوى مكبوتة وخفيّة بالكاد نتعرّف إليها اليوم.

هل عدّلت من آرائك قبل وبعد الثورات، خصوصاً بعد ما جرى في مصر وسوريا تحديداً؟

بالطبع لم أكن أتوقّع هذه الهبّة الكبيرة والعظيمة طلباً للحرّيّة والكرامة الإنسانيّة لأنّها تأخّرت كثيراً. لكنّ ما لم يتغيّر هو النظر إلى تكسّر المجتمعات العربيّة وتفتّتها، فجاءت الثورات تعلن بوضوح وصراحة بعيدين مدى هذين التكسّر والتفتّت.

كيف ترى إلى المثقف العربي بعد الربيع؟ وهل ستفرز هذه الثورات نخباً جديدة برأيك؟ ومن أي نوع؟

أعتقد أنّ الثورات العربيّة وضعت المثقّف أمام أسئلة ومسائل جديدة ومباشرة. لم يعد الكلام السابق في “الأصالة والحداثة” و”محاربة الإمبرياليّة والصهيونيّة” يُجدي نفعاً. اليوم بتنا في مواجهة التعامل مع مشكلات محسوسة في مجتمعات بعينها. أمّا أن تفرز الثورات نُخباً جديدة، فهذا ما أتمنّاه من دون أن أعرف إن كان ذلك سيحصل، أم سيحلّ هرب جديد من المسائل الملحّة إلى القضايا الكبرى المتوهّمة والمصطنعة.

اليوم كيف تبرّر تنقلاتك وكيف تقيِّمها؟

أعتقد أنني أينما كنت أرى الحقيقة كنت أنحاز إليها. ولا مرّة استطعت أن أبقى في مكان ليس الأقرب إلى الحقيقة. قد أنحاز إلى أمر وأقول إن لدي تحفظات عليه، لكني كنت  نسبياً أقرب إلى الحقيقة من المواقع الأخرى.

كيف ينظر الناس إلى مسارك بشكل عام؟

الذي يرى الأمور بشكل مختلف في السياسة يقول إنني متقلّب، والذي يتّفق معي في السياسة يكون لديه ميل لإنصافي أكثر. في نهاية المطاف أعتقد أن البشر يعيدون النظر في تجاربهم وقراراتهم.

لكن إلى أي حد مسموح للمثقف أن ينقلب أكثر من مرّة بهذا الشكل والقطيعة مع أشكال التفكير السابقة؟

المفروض أن تكون حركة العقل حرّة بالمطلق. مجتمعاتنا تختلف عن المجتمعات الغربية، حيث التراكم الذي ينطلق منه الأفراد ويبنون عليه. ننطلق نحن من لا تراكم أولاً، ونعيش عدداً من الخضات الهائلة. فمن خلال الحرب الأهلية التي دمرت التجارب، كنا نحاول أن نخترع اكتشافنا للحقيقة بصورة يومية.

ألا تشعر أن المثقف اللبناني كثير التنقل أكثر من غيره؟ نحن لا نرى مثلاً مثقفين في أوروبا ينقلبون بنفس الطريقة ونفس السرعة. وأيضاً نلاحظ أن وتيرة التنقل كانت في السابق خلال الستينيات والسبعينيات أقل مما هي عليه اليوم وأبطأ.

لا أعرف إذا ما كان المثقف اللبناني كثير التنقل أم قليله. لكن أعرف أنه في الماضي كان هناك مثقف الطائفة، وهو مثقف لا يتغيّر، أي أنه كان  لكل طائفة مثقفها. مثلاً إدوار حنين كان مثقفاً للموارنة أو نديم نقاش مثلاً، هؤلاء لا يتغيّرون. التغيّر يكون في الولاء لفكرة وليس لطائفة. وعندما لا نجد الفكرة منطقية نتغيّر. أنا رأيي أن تنقّلات المثقفين عندنا قليلة، لا بل أقلّ مما يجب.

لكن ما الذي يدفع المثقف إلى التنقل والتحول برأيك؟

التحوّلات تطال مثقفين لبنانيين وغير لبنانيين. نحن عشنا في زمن انهار فيه الاتحاد الاشتراكي، فهل من المعقول أن نبقى شيوعيين مثلاً؟ الغريب أن لا نتغيّر. نحن عشنا  زمن هزيمة الـ 67. انهارت الناصرية التي كانت معبودة العرب برمّتها. هذه تحولات تدفع الأشخاص حتماً ليتغيّروا. برأيي من تحوّلوا عاشوا أزمة رؤيوية، أزمة صادمة لأشكال الوعي، وبالتالي التحوّل يصبح طبيعياً ومنطقياً.

ألا تعتقد أن المثقفين اليساريين هم الأكثر تنقّلاً من غيرهم؟ اليمينيون مثلاً صمدوا في مواقعهم وتمسّكوا بأفكارهم وإيديولوجياتهم.

هذا لأن اليسار دخل إلى العمل السياسي من باب الولاء لفكرة أكثر من باب الولاء لطائفة، وبالتالي الموالي لفكرة حديث والحديث يتغيّر، بينما القديم الموالي للطائفة لا يتغيّر ويرفض التقلب. اليساري المفروض لأنه أكثر من اليميني انشداداً لفكرة ما وليس لمصلحة جماعة ما. الفكرة قائمة على الخطأ والصواب، وبالتالي فإن التفكير هو شيء من قيم الحداثة.، والمجتمع الحديث قائم على التغيّر. ومن يضمن أنني في الغد سأكون كما أنا اليوم؟

ما رأيك بالمثقفين الذين يضعون أنفسهم في مواقع عدّة فيقولون أنا ماركسي وديني ويميني… علماً أن هذه التعدّدية لا نراها لدى المثقفين في الغرب مثلاً فانتماءاتهم واضحة ومحدّدة؟

الاشتراكية الديمقراطية هي شكل من أشكال المصالحة بين التيار الماركسي والتيار الليبرالي، لكن الموضوع الأساس هو وجود مذاهب ودولة تطبّق عليها هذه المذاهب الفكرية. في مجتمعاتنا هذه غير موجودة. فإذا ما أسّسنا حزباً ليبرالياً أو حزباً ماركسياً ودعينا للانضمام له، هل نستطيع أن نجمع عشرين شخصاً،  بينما إذا دعينا إلى حزب سني أو شيعي أو ماروني يحصل العكس. من هنا أقول إننا إذا لم نستطع أن نتجاوز هذه المسألة، ونبني دولة حديثة تنبثق السياسة منها وليس من مقاتلة إسرائيل، فليس للماركسية والليبرالية وغيرها من معنى. وكأننا نتحدث عن أثاث المنزل ونحن جالسين على الطريق، في البداية يلزمنا منزل وبعدها نختلف إذا ما كان الأحمر أفضل أم الأسود.

من أنت اليوم وماذا تحمل؟

الأولوية بالنسبة لي أن تتحقّق الدولة، أن يحصل إجماع عليها. الدولة هي الوحدة في السياسة، ومثلما العملة هي اليونيت للإقتصاد كذلك الدولة. أنا رأيي كل السياسة والأفكار ليس لها معنى إذا ما قامت الدولة، حيث ستعمّ فوضى مطلقة.

إذا ما وجدت هذه الدولة اين تضع نفسك؟

أقرب ما أكون في حال وجود الدولة إلى الاشتراكي الديمقراطي بروحية ليبرالية، لكن كل هذه التصانيف موجودة في مجتمعات مستقرّة ودول قائمة.

هل تشعر اليوم أنك راض عن مسارك، وما الذي كان ينبغي أن تفعله وما الذي تندم على فعله؟

لست فخوراً بماضيّ السياسي، لكن القليل من الفخر يتأتّى من أنني لم أفعل شيئاً عن سوء نية. أخطأت طبعاً وأندم على ذلك طبعاً، لكن ذلك علّمني الكثير، علماً أنني كنت أفضّل أن لا أمرّ بهذه التجارب، مرّة قومي سوري ومرّة خميني وأخرى بعثي. أنا لا أفكر كثيراً في الأمر، لكن إذا ما سُئلت عن الموضوع أقول صراحة رأيي.

ما الذي تتمنى لو أنك فعلته وما زلت؟

أن أفهم أكثر أهمية لبنان كمجتمع متعدّد وأكثر تقدّماً في المنطقة، وأن أدرك باكراً قدرة هذا البلد على أن يكون نموذجاً في منطقته، وصرف الجهد في عصرنة المجتمع اللبناني وتحديثه وعلمنته.

هل تعتبر نفسك مثقف قلق أم مطمئّن تجاه ما يجري من ثورات في الوطن العربي؟

يمكن أن تضعيني في ما أسميته خانة “المثقّف القلق” لأنّ هذه الثورات فاجأتنا كثيراً ولا تزال تفاجئنا بما لا نتوقّع، فضلاً عن أنّها أطلقت تيّارات وقوى مكبوتة وخفيّة بالكاد نتعرّف عليها اليوم.

هل عدّلت من آرائك قبل وبعد الثورات، خصوصاً ما يجري في مصر وسوريا تحديداً؟

بالطبع لم أكن أتوقّع هذه الهبّة الكبيرة والعظيمة طلباً للحرّيّة والكرامة الإنسانيّة لأنّها تأخّرت كثيراً. لكنّ ما لم يتغيّر هو النظر إلى تكسّر المجتمعات العربيّة وتفتّتها، فجاءت الثورات تعلن بوضوح وصراحة بعيدين مدى هذين التكسّر والتفتّت.

كيف ترى إلى المثقف العربي بعد الربيع، وهل ستفرز هذه الثورات نخب جديدة برأيك ومن أي نوع؟

أعتقد أنّ الثورات العربيّة وضعت المثقّف أمام أسئلة ومسائل جديدة ومباشرة. لم يعد الكلام السابق في “الأصالة والحداثة” و”محاربة الإمبرياليّة والصهيونيّة” يُجدي نفعاً. اليوم بتنا في مواجهة التعامل مع مشكلات محسوسة في مجتمعات بعينها. أمّا أن تفرز الثورات نُخباً جديدة، فهذا ما أتمنّاه من دون أن أعرف إن كان ذلك سيحصل، أم سيحلّ هرب جديد من المسائل الملحّة إلى القضايا الكبرى المتوهّمة والمصطنعة.

»  سلاب نيوز / كتاب «حوارات في المسارات المتعاكسة» بيسان ٢٠١٣

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى