صفحات الحوار

حواران مع هاني عباس

 

 

هاني عباس: ما زلت في اليرموك

حاوره: راشد عيسى

حاز فنان الكاريكاتور هاني عباس أخيراً، جائزة الكاريكاتير Press Cartoonist Award، التي تعتبر الأهم عالمياً، وتنظمها مؤسسة “رسامو الكاريكاتور من أجل السلام”. كما تمنح كل سنتين إلى رسام “ممن أبدوا الشجاعة والموهبة والالتزام بقيم الإنسانية والتسامح والسلام والكفاح من أجل حرية التعبير”.

عباس، وهو رسام “المدن” الرئيسي منذ تأسيسها، سيتسلم جائزته في الثالث من أيار الجاري، مع رسامة الكاريكاتير المصرية الحائزة على الجائزة أيضاً دعاء العدل، في جنيف، حيث يفتتح معرض المئة رسم بمقاسات كبيرة على طول بحيرة جنيف، ويستمر شهراً. ومن اللافت اختيار كاريكاتير لعباس يصوّر “جندياً يستنشق وردة الحرية” ليكون ملصقاً للمهرجان والفعاليات المرافقة.

عباس قدم نفسه كفنان فلسطيني سوري، ولعلّ هذا الوصف أجمل هدايا الثورة السورية، إذ درج مثقفون فلسطينيون ولدوا وعاشوا في سوريا على استخدامه، اعتزازاً بثورة البلد الذي شاركوه في كل شيء، بما في ذلك ثورتهم، وتعبيراً عن هوية، ربما لم تكن بهذا الوضوح عشية اندلاع الثورة. لذلك لم يتردد عباس في أن يهدي الجائزة إلى “الشعب السوري والفلسطيني، الشهيد والمعتقل والمحاصر والمهجر. لمخيم اليرموك وكل المخيمات المحاصرة، لرسام الكاريكاتير السوري المعتقل أكرم رسلان، وللشهيد الصحافي السوري مصعب العودة الله، والشهيد الفنان الفلسطيني السوري حسان حسان”.

برز اسم الفنان الفلسطيني مع الثورة السورية. وعن الهوية، يقول في حديث إلى “المدن”: “أنا ولدت في سوريا وعشت طوال عمري فيها، ولم أشعر في أي وقت بأي تمييز لكوني فلسطينياً أو لكونهم سوريين. وقع عليّ، ويقع، ما وقع عليهم في كل شيء. كذلك كنت عضواً في كافة الفعاليات السورية للكاريكاتور وعضو لجنة تحكيم مهرجان سوريا الدولي ثلاث مرات، وبالتالي لا يوجد أي فرق. ما قمت به بعد اندلاع الثورة، هو أنني وقفت إلى جانب الشعب والإنسان السوري المطالب بحقوقه وحريته. هؤلاء هم أهلي وأصدقائي. عبّرت من خلال رسومي عن المعاناة والقمع بصفتي الإنسانية وكوني أعيش في قلب الحدث، ولا يمكن لي أن أكون بعيداً في رسومي وأفكاري عنه. في الوقت نفسه، لم يكن هنالك تمييز في القتل أو القصف والحصار والاعتقال والخطف والتعذيب حتى الموت بين سوري وفلسطيني”.

عباس (مواليد 1977)، غادر مخيم اليرموك إلى لبنان، ثم انتقل منذ شهور للعيش لاجئاً في جنيف، لكن لا يبدو أن هذا التنقل بدّل شيئاً من عمق التزامه بهذه المتابعة اليومية والدؤوبة للحدث السوري: “كلما كان الانتماء إلى المكان قوياً فإن الزمن والوقت والتبدل الجغرافي لا يستطيع تغيير هذا الانتماء . ومع أني تنقلت كثيراً خلال السنتين الماضيتين إلا أنني، وبصراحة، لا أشعر بأي مكان إلا مكاني الحقيقي في مخيم اليرموك. ما زلت أشعر أني باق هناك، في اليرموك، ويصلني كل ما يصل أهله الآن من وجع وحصار وألم يومي”.

هي رحلة أخرى من أجل صراخ آخر، ففي الأمكنة الجديدة، الصرخة نفسها بلغات أخرى: “المهم في الأمر ألا تبعدنا الأمكنة عن مكاننا الأصلي، وألا تغيرنا العادات الجديدة عمّا تعوّدنا عليه، وألا يتعبنا تعلّم اللغات الجديدة، فنحن في صرختنا لا نحتاج إلى تعلّم لغة جديدة. أعتقد أن الصرخة هي نفسها في كل اللغات، ونحن لا نستطيع إلا أن نصرخ”.

لكن حجم الدمار ومأساوية القتل والتهجير تطرح تحدياً كبيراً على رسامي الكاريكاتور. إذ كيف تستوي كل تلك الفجيعة والدم على الأرض، مع رسم يتوخى السخرية ويقوم على التهكم؟ يقول عباس” “هنا تكمن الصعوبة، في تحويل مسار الكاريكاتور ليكون معبراً عن المعاناة والحزن، المفارقة المؤلمة لا المضحكة، البحث في أعماق الفكرة وتجسيد المعاناة، الكاريكاتور المبكي، المفارقات اليومية الصادمة والحادة، وإعادة اكتشاف العقل البشري عندما يوضع على المحك. أحاول أن أوصل الفكرة إلى العمق، أن يحس بها المتلقي في أي مكان في العالم ويجد نفسه في الصورة، أن تحاكي الفكرة شيئاً بداخله، ويعرف أن هنالك من يذبح شعباً كاملاً هنا، وتستمر الصورة والفكرة لأكبر وقت في وجدانه وذاكرته”.

وعن وسائله في التواصل مع الحدث على الأرض، وكيف يبحث عن فكرته، وما إذا كانت هناك عادات يومية في البحث عن اللوحة، يقول الفنان: “الفكرة لا تأتي بقرار، هي نتيجة تأمل مستمر وملاحظة دقيقة للاشياء والأحداث. مع الوقت تصبح عملية لا إرادية، أي أنني لا أجلس لأبدأ البحث عن الفكرة، فهذه غالباً ما تأتي وحدها، بعد ذلك يمكن العمل على تكوينها وكيفية إخراجها ونشرها. عادة أسجل الكثير من الأفكار على أوراق صغيرة تنتظر أن أبدأ برسمها. لا أعرف أياً منها سيكون الرسم الجديد بالتحديد، لكني أتصور أن عليّ تقديم ما هو أعمق وأصدق وأقوى في كل مرة. في الحقيقة لدينا مخزون كبير من القهر يظهر على شكل أفكار وتحديات، ناهيك عن الكثير من الأحداث والتصريحات والتحليلات الغبية التي تكون بحدّ ذاتها فكرة جاهزة للتهكم”.

لا مناص لفن الكاريكاتور من الالتزام بالواقع، بيوميات الحياة ومجريات السياسة، هذا ما يجعله فناً لصيقاً بالصحافة. فكيف ينظر الفنان إلى هذه العلاقة، وهل يتمنى مساراً آخر للوحته؟ ثم ألا تزعجه هذه العلاقة اليومية (والضرورية ربما) مع الحدث؟ يقول: “الكاريكاتور والصحافة متلازمان بشكل كبير. لا صحافة بلا كاريكاتور، لكن يمكن أن يكون هناك كاريكاتور من دون صحافة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. غالباً لا أهتم بالحدث اليومي، أرسم عن الحدث بمجمله، الحدث المستمر، العلاقات المتناقضة في هذا العالم، الوجع، الإنسان”.

ويضيف عباس: “في الفترة الأخيرة بدأت أنتقل إلى صياغة كاريكاتور هو أقرب للوحة التشكيلية، أو ربما عملية دمج. ظهرت هذه التجربة واضحة في لوحة “صرخة سوريا”. تعرضنا خلال السنوات الثلاث الأخيرة لجرعات ضحمة من الموت والحزن والفجائع انعكست بالضرورة على اللوحة، وأعطت شكلأ جديداً وصورة حقيقية عرّت الكثير من المفاهيم التي كنا نؤمن بها سابقاً، وكشفت عن الوجوه الحقيقية السوداء لمن كانو يعتبرون أنفسهم رموزاً للحرية. مفارقات وصدمات لا بدّ أن تنعكس في الكاريكاتور وفي إعادة فهمنا للكثير من القضايا، ومعرفة من هم أصحابها الحقيقيين”.

المدن

هاني عباس: رسائل مخيم اليرموك هي جائزتي

نال إحدى أهم جوائز الكاريكاتير الصحافي

علاء الدين العالم

لم يكن يعي الفنان الشاب هاني عباس، حينما انطلق برحلته في الرسم من «مخيم اليرموك»، أنه سيطاول العالمية ذات يوم وينال جائزة Press Cartoonist Award ، إذ كان همه ولا يزال التعبير عن الوجع الفلسطيني السوري الآن/ هنا، عبر تحويله إلى رسوم كاريكاتورية تجتث لحظة من الواقع وتحيلها أيقونة مؤلمة. عن الجائزة العالمية، وكاركاتيره، ومخيمه، كان هذا الحوار..

تنتقل اليوم إلى العالمية، بعدما نلت هذه الجائزة القيمة، وهي من أهم جوائز الكاركاتير في العالم. ما الذي ستضيفه إلى فنك؟

^ هذه الجائزة هي إضافة كبيرة إلى صعد عدة، أهمها وصول الصوت إلى العالم، صوت الآلاف من الضحايا والمعتقلين والمهجرين، صوت شعبنا الذي يُذبح كل يوم. ناهيك عن أن هذه الجائزة تمثل اعترافاً من العالم بأننا موجودون كشعب عريق مستمر منذ بداية التاريخ، وما زال قادراً على الإبداع ورفد البشرية بالفكر والأدب. وبالنسبة إلى الصعيد العملي اعتبرها نقلة كبيرة لرسومي ومسؤولية أكبر تقع على عاتقي الآن. الشيء الشخصي هو أن فرحتي الحقيقية كانت من فرحة أهلنا في المخيمات والمنافي التي عبروا عنها من خلال الرسائل الكثيرة التي وصلتني منهم من كل مكان، خصوصاً من داخل مخيم اليرموك المحاصر، هذه الرسائل هي جائزتي الحقيقية وهي التي أبكتني بصدق.

الصورة الحقيقية

يلتصق فن الكاركاتير باللحظة الراهنة، محاكاتها والتعليق عليها. كفنان كاركاتير كيف تفسر رسوم بعض الفنانين اليوم المبتعدة عن الواقعة الهاربة من محاكمة أصيلة لما يحدث اليوم؟

^ الفن بطبيعة الحال إحساس وقيمة ومعنى، ومن يفتقد لهذه المفاهيم لا يمكن أن يكون فناناً ولا يستطيع أن يقدم أي منتج فني وفكري. ملكة الفن هي رسالة في داخل الإنسان يستطيع من خلالها أن يقدم للناس وليس العكس. وأنا لا أفهم أن يدعي أي شخص بأنه فنان وفي الوقت نفسه يقف ضد إرادة الناس وضد أبسط مفاهيم الإنسانية، أن يقف مع القاتل ضد الضحية، أن يبرر القتل!! هذه الظاهرة برزت بشكل كبير حديثاً، حيث وضعت الانتفاضات العربية الجميع على المحك. من هنا، إن رسام الكاريكاتير الحقيقي يرسم من أجل شعبه وليس ليكسب رضا رئيس التحرير أو ممول الجريدة أو السلطات الحاكمة.

لفن الكاريكاتير وظيفة إعلامية ذات خلفية سياسية، ما هي الوظيفة التي تؤديها لوحات هاني عباس، وهل تقوم على رأي سياسي محدد؟

^ ما أقوم به من خلال لوحاتي محاولة مني لنقل الصورة الحقيقية لمعاناة الناس، محاولة للقول دائماً إننا بشر مدنيون، اطفال وعائلات مكانها الطبيعي هو الحياة على الأرض ولسنا جثامين متجمعة تحت أنقاض منازلها التي دمرتها القذائف والبراميل أو في المعتقلات او المخيمات. أنا لا أحب السياسة، وارسم لحقوق الإنسان وحريته وكرامته. هذه هي قضيتي. وهذا لا يمنع من أن أشير دائماً إلى القاتل والمنتهك لكل القيم أياً كان. فمن يحاصر ويجوِّع ويعتقِل ويعذب ويقصف ويخطف قاتل دون شك، كذلك حال العالم الذي يتفرج على كل هذا ويبقى صامتاً، أيضاً يندرج تحت مظلة هؤلاء القتلة أولئك المدعون الذين كشفت عوراتهم ونفاقهم عندما وقفوا ضد هذا الشعب في هذه المحنة.

بعد نزوحك من مخيم اليرموك ذهبت إلى لبنان ومنه إلى جنيف، إلا أنك تمكنت عبر أعمال ذات سوية عالية فنيا من محاكاة مأساة سوريا عموما واليرموك خصوصا، كيف تمكنت من التقاط هذه الحساسية على الرغم من بعدك عن الأرض التي يجري عليها الحدث؟

فك الحصار

^ المكان لا يمكن أن يسيطر على الأحاسيس بسهولة، فكيف إذا كانت هذه الأحاسيس هي ذاكرة معاشة ومستمرة. لحظات رهيبة من الخوف والقتل والقصف والدمار. ذاكرة ممتلئة بعيون الناس الحزينة ولحظات الشهداء الأخيرة. المكان هو هنا في جنيف. لكن الزمان ما زال هناك في المخيم. لا استطيع رؤية ظلي إلا هناك. لم آتِ إلى هنا لأحصل على الرفاهية وزجاجة الحليب المعقم التي توضع على باب البيت صباحاً. انا هنا لكي أوصل صوت كل من ودعني هناك تحت الحصار وحملني الأمانة.

غالبية أعمالك تحاكي واقع مخيم اليرموك اليوم، ناقلة بحساسية مرهفة الواقع المأساوي للمخيم في ظل الحصار والجوع، ألا تخاف من أن يؤطر هذا عملك الفني، أم أن اليرموك هو قضيتك المركزية؟

^ يمكنني القول هنا إن ما يجري في مخيم اليرموك هو صورة مكثفة عما يجري في كل سوريا، وكوني ابن المخيم لا بد لي من أن أرسم عنه وله. لي رسوم كثيرة عن قضايا مختلفة، لكنها في الحقيقة تعود في الأصل الى البداية نفسها، ألا وهي الإنسان. الناس في المخيم محاصرة منذ أشهر. تموت من الجوع ومن نقص الدواء. هنالك المئات من الأطفال والنساء بلا كهرباء ولا ماء ولا طعام ولا دواء. لا أحد يفعل شيئاً من أجلهم (رغم وجود بعض المبادرات المتواضعة لكن غير الكافية). لا نستطيع السكوت عن هذه الجريمة وأي جريمة في أي مكان آخر، مهما كانت المبررات. لا يوجد أي مبرر يقبله العقل والأخلاق في حصار أطفال ونساء وعائلات لا دخل لهم في أي صراع سياسي، وتركهم يموتون جوعاً! البشر أولاً، ولتذهب السياسة إلى الجحيم. أتمنى أن يفك الحصار عن المخيم لأجل كل أهلنا هناك. هذا ما نريده. فقط الحياة لهم. هل هذا كثير؟

أجرى الحوار: علاء الدين العالم

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى