حوار “الرأي العام” مع ياسين الحاج صالح
أسئلة ريتا فرج
الخطاب الذي توجّه به الرئيس السوري بشّار الأسد لم يتطرق بشكل تفصيلي الى الخطوات الاصلاحية بل تمّ التركيز على المؤامرة التي تتعرض لها سورية. ما هو تفسيرك لذلك؟
السلطات السورية غير مؤهلة في تقديري لتطوير حلول سياسية جدية للمشكلات الوطنية. تفضل تصوير هذه المشكلات كمؤامرات خارجية من أجل أن تسوغ التعامل الأمني العنيف معها، وهو ما تجيده أكثر من غيره. إذا كان هناك مؤامرة خارجية، فالشيء الصحيح هو سحقها وتحطيم المتآمرين. وتاليا لا شرعية الاحتجاجات الشعبية، ولا داعي لأي تغيير سياسي جدي. أقصى ما يلزم هو “إصلاحات”، معيار صلاحها يحدده النظام وحده. علما أن النظام لا يعتبر نفسه صالحا فقط، وإنما هو الصلاح بالذات.
أشار الاسد الى أن الاصلاح يجب أن يكون سريعاً وليس متسرعاً وفي المقابل لم يحدد الخطوات التي تدشن لعملية الاصلاح التي ينتظرها الكثير من السوريين. برأيك هل يلجأ النظام الى تمويه الرأي العام السوري من خلال إخفاء الأزمة التي يعاني من النظام؟
لن نرى غير “إصلاحات” شكلية لا مضمون لها. بنية النظام في سورية مضادة للإصلاح. ولذلك “الإصلاح” الوحيد الممكن هو تغيير هذه البنية عبر طي صفحة نظام الحزب الواحد وحالة الاستثناء والأجهزة الملحقة بها، وتطبيع الحياة السياسية باتجاه الاعتراف بقوى سياسية مستقلة، وقبل كل شيء الانتهاء من مبدأ الحكم الأبدي والوراثي، والتحول نحو نظام سياسي قائم على الانتخابات الحرة على جميع المستويات، من المحلي إلى البرلماني إلى الرئاسي. هذا أساسي لأن ما هو أهم من إصلاحات هنا وهناك هو وجود آلية إصلاح ذاتية لما قد يتعرض له النظام السياسي من أعطاب. وهذه الآلية هي الانتخابات الحرة لا غيرها. الحكم الأبدي بالمقابل هو مضخة إفساد أبدية.
أشار الرئيس الأسد إلى أن فريقه ليس معارضاً للإصلاح في حين أن بعض الجهات لا سيما من المعارضة السورية تؤكد على الممانعة التي تبديها القيادات الأساسية في حزب البعث لأي عملية اصلاحية. ما رأيك في ذلك؟
طور النظام في سورية غرائز محافظة جدا بفعل طول بقائه في الحكم، وما يورثه ذلك من غرور ورفض للاعتراف بأنداد على المستوى الوطني. ولقد جُنيت ثروات هائلة في ظل التقييد السياسي المتطرف للشعب السوري، وتكونت نخبة سياسية- مالية- أمنية شديدة الرجعية، ولديها الكثير جدا مما تخسره، إن تغيرت المعادلات السياسية القائمة في البلاد. وهي تحجب رجعيتها وأنانيتها وراء إيديولوجية “الممانعة”، أي الوطنية المعرفة بدلالة “الخارج”. ورأيي أن النظام ككل متطرف في رفضه للإصلاح السياسي الحقيقي، وأن الفوارق ضمن مراتبه محدودة وغير مؤثرة.
لكن قد يكون من شأن استمرار وتصاعد الاحتجاجات الشعبية أن يكون عامل فرز بين متطرفين يفضلون سحق الانتفاضة بالقوة، وبين معتدلين نسبيا، مستعدين لتسويات جزئية تضمن المصالح العليا لنخبة السلطة، مع التضحية بالصيغ الأكثر عدوانية وتطرفا لتحقيق هذه المصالح. ينبغي القول أنه ليس هناك بعد مؤشرات واضحة على فرز من هذا النوع.
وسط تفاقم حركات الاحتجاجية في العالم العربي إلى أي مدى بإمكان النظام السوري قادر على تخطي أزمة النظام البنيوية؟
دخلنا عربيا مرحلة تاريخية عنوانها “الاستقلال الثاني”، أو التخلص من الاستبداد والتحول نحو الديمقراطية. تتفاوت المسارات والإيقاعات والكِلَف، لكن لن يبقى أحد خارج هذا التحول إلا بكلفة عالية قد تؤدي إلى تحطيم المجتمع المحكوم، والبلد ككل. وما تسمينه أنت “أزمة النظام البنيوية” مرشحة فقط للتفاقم بفعل مقاومة النظام للتحول الديمقراطي. ورأيي لا سبيل لتخطي الأزمة على أرضية الذهنية السياسية التي تسببت في أصلا. والمثل الشعبي السوري يقول: “اللي يجرب المجرب، عقله مخرب!”. لذلك لا مجال لتخطي الأزمة دون تخطي النظام ذاته.
هل سيؤثر الحراك الثوري في العالم العربي في تطور الوعي الديمقراطي عند المجتمع السوري؟
هو مؤثر منذ الآن. لا شك في أن اهتمام السوريين بالشأن العام لبلدهم أوسع اليوم من أي وقت سبق منذ أربعين عاما. المواقف متنوعة ومتعارضة، لكن قاعدة التفكير والنقاش واسعة، ولا يكاد يبقى أحد خارجها. غير أننا نفتقر في سورية إلى أطر صحية للتفكير والنقاش الوطني العام. ولا ريب أنك ترين المستوى المخجل للإعلام السوري، ومحاولة الناطقين باسم النظام تخوين الأصوات المعارضة التي تتكلم عبر منابر إعلامية عربية. هذا التطرف من قبل النظام وأتباعه يثير اشمئزاز قطاعات متسعة من السوريين، حتى ممن لم يكونوا معارضين يوما.
على أن مسألة الوعي الديمقراطي وثيقة الصلة بتعميم قيم المساواة والحرية والتسامح في التعليم والحياة العامة. ما يمكن أن نكسبه سياسيا علينا أن نعاود كسبه ثقافيا من أجل تثبيته ومأسسته. لذلك فإن مسألة الوعي الديمقراطي تتجاوز الطور الحالي من المعركة الديمقراطية، وهي منوطة بدور أكثر إيجابية للمثقفين المستقلين وللدولة والمؤسسات العامة.
المعارضة في سورية في حال من النزاع الدائم مع النظام. اليوم بعد الافراج عن سجناء الرأي في سورية الذي يُقال أن القسم الأكبر منهم من الاسلاميين. كيف تفسر هذه الخطوة؟
لم يفرج إلا عن سجناء قدماء من سجن صيدنايا، أنهى بعضهم أحكامهم وزيادة. أكثرهم إسلاميون فعلا، وبينهم عدد من الناشطين الكرد. بالمقابل، اعتقل المئات في سورية أثناء الانتفاضة في الأسابيع الماضية. يفرج عن بعضهم بعد وقت قصير، لكن الكثيرين منهم في السجون اليوم. وليس هناك أي مؤشر على أن النظام يعتزم أخيرا أن يتعامل باحترام مع الشعب ويكف عن اعتقال الناشطين السياسيين المعارضين وإذلالهم، وترويع المجتمع ككل. هذه هي النقطة الملموسة الحاسمة في رأيي للكشف عن صدقية وعود النظام. كي نصدق أي شيء منها ينبغي الإفراج فورا عن جميع المعتقلين، الجدد والقدامى، ويلزم التعهد الرسمي الصريح بالإعلان الفوري في وسائل الإعلام عن اعتقال أي شخص وسبب اعتقاله.
لماذا يعتمد النظام خطاباً يوحي بأن التغيير في سورية سيؤدي إلى الفوضى الطائفية؟
لأن هذا يمنحه موقعا تحكيميا، ويضعه فوق المجتمع. فإذا كان السوريون “شعوبا وقبائل” متناحرة، وإذا كانوا طوائف متجاورة، ولا يكف بعضهم عن سن سكاكينه منذ الآن لجز أعناق بعضهم الآخر، فإن الشيء الصحيح هو وجود نظام أمني شديد الصرامة، يعاملهم بشدة كما تعامل الوحوش الكاسرة. هذه نظرية منتشرة في سورية، وهي عقيدة الأجهزة الأمنية فيها، ومن أهم أدواة السيطرة السياسية في البلد.
وفي العموم، أرى أن الطائفية استراتيجية سيطرة سياسية مجربة، تمنع تكون الشعب، وتمنع استقلال الأفراد وولادة المواطن المستقل، وتجعل الحكم أمرا أقل مشقة على الحاكمين.
أي تغيير للنظام في سورية كان يقابل بالمشروع الاسلامي كما حدث في مصر وتونس. ولكن حركة الاخوان المسلمين في سورية أعلنت عن مشروع الدولة المدنية. هل يدل ذلك على تحول ايديولوجي عند الحركة على مستوى المشروع السياسي؟
ليس جديدا كلام الإسلاميين على الدولة المدنية، لكنه كلام متناقض في رأيي. يقولون إنهم يريدون دولة لا يحكمها رجال الدين، لكنها تستمد قوانينها من الشريعة. هذه دولة دينية مموهة لا أكثر ولا أقل. وعلى كل حال، أرى أن الثورات العربية، ومنها الانتفاضة السورية، غير ذات حساسية إسلامية بالمعنى السياسي للكلمة، وإن استندت إلى الإسلام كأحد أكبر أعمدة الشخصية الوطنية في بلداننا؛ ولأن الدين هو حد الفقر السياسي في مجتمعاتنا: فحشد المصلين في المسجد هو “التجمع الشرعي” الوحيد الذي لا يمكن فضّه، والقرآن، والنصوص الدينية بعامة، هي “الرأي الشرعي” الوحيد الذي لا يمكن منع التعبير عنه.
لكن ما ينطبق على الإسلام لا ينسحب تلقائيا على الإسلاميين، ولا يعني مكاسب مضمونة لهم. أقدر أن الإسلاميين، التنويعة الإخوانية بخاصة، سيكونون في موقع مستفيد من التغيرات السياسية العربية، لكنهم مجرد عنصر واحد، مهم ومنظم أكثر من غيره، من طيف أوسع من المستفيدين، يشمل أيضا تيارات علمانية، ليبرالية ويسارية وقومية غيرها. وإذا استندنا إلى المثال المصري يبدو أن سقوط نظام الاستبداد يحرر ديناميات التمايز داخل الإسلاميين أنفسهم، فنرى تمايزا بين الشباب والشيوخ، وضمن الشيوخ أنفسهم رأينا عبد المنعم أبو الفتوح، القيادي المتمرس، يعمل على تشكيل حزب إسلامي مغاير، يبدو أكثر “ليبرالية”.
وبصورة عامة، أرى أنه ليس من المناسب النظر إلى التغيرات السياسية العربية ومستقبلها من زاوية تحولات الإسلاميين، أو مكاسبهم السياسية المحتملة في الفترة الباكرة من التحول السياسي.
النظام السوري تعاطى مع الحركة الاحتجاجية تارة على أنها تعكس مطالب محقة وتارة بأنها من فعل الأصوليين والخارج. هل ثمة ارباك معين في مقاربة النظام لما يحدث؟
نعم. وأرجح أن مصدر الارتباك هو كون الاحتجاجات غير مسبوقة نطاقا وحجما، وإن لا تزال غير معادلة لما شهدنا في مصر وتونس واليمن. يفسر آخرون هذه الارتباك باستقطاب بين توجهين في مراتب السلطة العليا، توجه متطرف وآخر معتدل. أنا ميال للتشكك في ذلك حتى الآن.
لكن ربما يكون الطابع المتصلب، المستعصي على الإصلاح، للنظام هو الأساس في خطواته المرتبكة التي تندفع للقمع حينا، وتعد بإصلاحات شكلية حينا. لا يستطيع النظام أن يقوم بمبادرة سياسية كبرى، تتيح له استعادة زمام المبادرة السياسية وطنيا بمقابل مكاسب سياسية حقيقية للشعب السوري، فيجد نفسه أسير رد الفعل، يتصرف حسب سير الأحداث، وخاصة حسب تطور حركة الانتفاضة الشعبية. لكنه بذلك يدفع نفسه والبلد في غمار المجهول.
هل تعتقد بأنه تمّ احتواء الحركة الاحتجاجية في سورية من خلال وعود النظام بالاصلاح والحديث عن الفوضى المذهبية؟
أبدا. احتجاجات يوم “جمعة الشهداء”، 1 نيسان، تلت الوعود الإصلاحية المزعومة. وشهدت احتجاجات واسعة وشهداء ومعتقلين. ولقد رسخ ذلك من أزمة الثقة بين الشعب وبين النظام. من يعتزم الإصلاح لا يقتل ولا يعتقل مواطنيه.
ما يقلق هو سيناريو “الفوضى المذهبية”. لقد تم إبطالٌ أولي للخطر الطائفي في اللاذقية في مطلع الأسبوع الأخير من آذار. والمهم المثابرة على إبطاله، والإلحاح على الطابع الوطني والمواطني للاحتجاجات الشعبية. وهذا ما أظهرت التحركات الاحتجاجية وعيا رفيعا به وحرصا مميزا عليه.
غالباً ما كان يشاع على أن اسرائيل تحرص على استقرار النظام في سورية تفادياً لبديل غامض. هل ما زالت هذه الفرضية قائمة؟
سورية في مواجهة مع إسرائيل أيا يكن نظام حكمها. هذا لا يمنع حسابات عقلانية باردة من الطرفين. أقدر أن إسرائيل تفضل شياطين تعرفها على شياطين لا تعرفها. وبالمثل من مصلحة سورية، اليوم وفي المدى المنظور وأيا يكن من في الحكم، تجنب المواجهة العسكرية مع عدو أقوى بكثير. وفي تقديري لا مسوغ لإقحام العامل الإسرائيلي في النقاش حول الاحتجاجات الشعبية في سورية اليوم. هذا منطق “الممانعة” الكاذب، وهو أوثق صلة ببنى السلطة الاستبدادية منه بأي شيء ذي صلة بصراع وطني أو قومي.
وزيرة الخارجية الأميركية قالت إن تعاطي المجتمع الدولي مع سورية يختلف عن ليبيا. الى اي مدى يرتبط ذلك بموقع سورية الاستراتيجي؟
إذا تغيرت سوريا سياسيا لن يبقى شيء في المشرق الشامي العراقي على حاله. وهذا قد يطلق ديناميات سياسية وفكرية وسيكولوجية، واستراتيجية وأمنية، تؤثر على الخليج والجزيرة العربية معا. وهذا شيء يتحسب له الأميركيون.
لكن يبدو لي تصريح الوزيرة الأميركية مجانيا اليوم. فببساطة، لا مجال للمقارنة حاليا بين الوضع السوري والوضع الليبي. ومن شأن الكلام على أي تدخل أميركي في الشؤون السورية أن يستثير إجماعا سورية واسعا ضده. إسرائيل والموقف من إسرائيل، والرعاية الأميركية لها، عنصر راسخ في السياسة والثقافة السياسية السورية. ولا يريد أحد في سورية أن يسمع شيئا على تدخل أميركي. ومن شأن شيء كهذا أن يكون مجهضا بالفعل للحراك الديمقراطي السوري. في شروطنا العيانية اليوم، أميركا أقل، ديمقراطية أكثر. والعكس بالعكس.
نشر الحوار في الراي العام الكويتية، الجمعة، 8/4.وكان منجز من يوم 3 /4